مرّت الأعوام، وربـما اعتقد أنه النسيان، فمررت من ذلك الـمكان، وأنا متلبسة بالشطب، وخطواتي الـمتهمة بالنسيان تقودني خطوة إلى الخلف وخطوة إلى الأمام. تلاهفت أنفاسي وارتعشت أناملي وقرعت طبول الخوف، ما ظننت أنه الخوف فأدركت أنها طبول الشوق تـماما مثلما كنت ألقاه.
كم يشبه صمت الـمكان عيناه، صمت ممتلئ بالكلام، وكأني نفضت الغبار عن ذاكرتي وكأننا كنا بالأمس هنا. حينها فقط أدركت أن كل تلك الأعوام كان النسيان واقفا عل أسوار الوقت، ولـم تكن الأيام سوى رمادا متراكما فوق جماد الشوق، وكأنني حين وثقت، نفخت على تلك الجمرة فأحرقت بها ضلوعي، وتسللت الوحشة لعروقي ولـم أسمع سوى خفقات قلبي ولهيب أنفاسي وهمسات ضحكات وبسمات تجيء وتذهب كالصدى. وكأن ذلك الـمكان قد هجره الوقت ولـم يعد يسكنه سوى ضلال القمر، وبقايا آثار خطواتنا، وصدى ألحان قديـمة وبعض أوراق يابسة رمتها الرياح نحو الرصيف.
تلك النسمات الـمسائية، تنفخ في الناي الحزين، تنفخ في تلك الجمرة فتحرقني، وتفني من صدري ما تفني. وفجأة أسمع اسمي يرده الصدى، فألتفت، وفي كل الاتجاهات عنه أبحث، ظننت أني لـمحت ظله هناك، ولكنه كان الدمع في عيني يخيل إلي بعض الخيالات. وحفيف الأشجار التي يداعبها النسيم يخادعني، وكأنه يهمس بصوته اسمي.
يا لا رداءة سذاجتي، اعتقدت أنه أيضا اشتاق وقادته خواطر الحنين ولكني هن لوحدي في ذلك الـمكان الساحر. فأخذتني الذكريات لأعيش كل تلك التفاصيل وتذكرت كل الذي كان، في ذلك الـمكان.
اختلطت علي الأسماء، أصبح زمن الـماضي فيه الحاضر، وزمن الحاضر في مكان ما ولـم يـملء الـمكان سوى صور قديـمة ومعان منحوتة على الأغصان والأوراق، على الطريق، على الأشجار تروي لي الحكاية، منذ البداية حتى النهاية. وتساءلت بيني وبين نفسي، أتراه مرّ يوما من هنا؟ وهل أشعل الـمكان جمر الشوق لديه كما فعل بي ؟ هل مرّ وتذكر همساتنا وضحكاتنا ؟ شغفنا ومشاجراتنا؟ أم أنه نسـي كل شيء، مثلما نسي الـمكان حكايتنا ...