كنت حقّا أتأفّف من المقهى أو أتحاشى أسوارها ولا ألج مدخلها، لكنني في بعض الأحيان أكون في ذلك «مضطرا أخاك لا بطل كما يقال». حدث هذا الشيء الرهيب في طفولتي حينما لم يكن هناك هاتفا محمولا بمثل اليوم، وكان من الممكن أن ينتهي هذا العمل الشاق في مكالمة عادية جدا، ولا تضطر أمي في قضاء حاجاتها أو مآربها أو لحاجة في نفس يعقوب كما يقال إليّ، وتلح أمي أن أنادي أبي وتكلّفني بهذه المهمة التي كنت لا أحبذها، ولكن كيف السبيل إلى الولوج إلى هذا العالم المتمرد المتصعلك الملئ بالتيه والعربدة والعبث والصخب، وجموع بشرية ملتفة هنا وهناك متلاصقة أو متعانقة، أو ينظرون إلى بعضهم البعض حول طاولات «الدومينو» يتهامسون أو يتلامزون خفية لما تتطلبه اللعبة بأسرارها وخفاياها ومراوغاتها ومخادعاتها وحيلها، اللعب مثل الحرب خداع وإلاّ ماتت حجرة الستة مكرر كما يطلق عليها بين أيدي اللاعب، ليس بمثل القوانين أو النصوص التشريعية المكررة أو التي تلغى بعضها البعض أو مكملة أو يعاد النظر فيها بتلويحة خافتة من طرف النواب، المهم أن الأم تسوق ابنها البكر الوحيد إلى قدره وهي تعلم ما يعانيه فلذة كبدها من هذا الإزعاج، الابن في هذا المساء الفاتر الهادئ يحاول بما أوتي من قوة أو من سبيل أن يخلد إلى السكينة والراحة بعد تعب يوم دراسي شاق وطويل،
وتكلفني أن أبحث في خضم هذا التزاحم والتدافع ودخان السجائر يزكم الأنوف أو مرميا على الأرض تدوسه الأرجل حتى يخلف مسحة سوداء بذيئة، والأب منحشرا في لحظة لهو، ربما في جلسته حيث التراشق بحبات النرد أو أوراق «الكارطة» التي كنت أهاب صورها المزعجة المزركشة وتلوناتها ووباء زخرفتها بسيوف ونساء، ورجال مفتونون العضلات، لم أصدق أنّني أسير برجلاي إلى هذا المصير المخجل في أن أقدم رجل وأأخر أخرى، ولكن لا مناص في أن أصل إلى هذه الحجرة النزقة، حتى هذه «الكارطة» لا أود أن أراها والتي ياما لعبت بها المشعوذات، وكذا هؤلاء المتفجرون المنتظرين لقهوة أو شاي يسدى إليهم مجانا، والتساؤل الذي يحفر في ذهني أنني ربما لا أثير أدنى اهتمام، فما بالهم أن أقول لهم: إن أمي تطلبه أمام الرجال، سوف يتلعثم لساني أو أبقى مبهوتا لا أستطيع حراك أو للتو سأجن لو ذكرت اسم أمي أو أهمس له في أذنه أو أصرخ أو أوقف الصخب الشبيه بهدير البحر أو أطلب نقطة نظام كما يفعل السياسيون، أو أطلب من جل الرواد أن يتوقفوا وربما يواصلون ولا يمنحونني أدنى فرصة، ولا يقيمون لي وزن أو أدنى اعتبار أو ربما يتهامسون أو يتغامزون أو ترتفع قهقهاتهم عاليا ممتزجة بالدخان الفاتر المنطلق من أسنانهم الصدئة التي تبدو كأنها مغارات أسطورية، وما أن ترتد إليهم أنفاسهم حتى يعيدونها سيرتها الأولى أمام طفل بريء، شيء رهيب أعانيه و لا حيلة لي إلا المغامرة أو المجازفة أو إظهار بعض الرجولة والنيف، ولكن قبل أن أدنوا من مكانها بدأت أرتعش من أخمص قدمي إلى ناصية رأسي، وبدأت أتصبب عرقا وبدأت أسناني تصطك وازدادت نبضات قلبي متسارعة في تهور، وفي كلتا الحالات حكمت على نفسي بالفشل المريع، وأي فشل في المهمة التي أسندت إلي من طرف أمي طبعا المنتظرة في وجل وترقب إطلالتي إما خاليا الوفاض أو ممتلأ الخماص، وأين أجده بين هذه الأكوام البشرية المتراصة، إن مهمة البحث عن أبي يبدو لي في غاية الخطورة أو كأنني أبحث عن إبرة في كومة قش كما يقال، وأنا أزحف كطفل ربما تدهسني رجل مشجع لهذا الفريق أو ذاك أو ربما يصدمني غاضبا من خسارته للعبة ودفعه لثمن القهوة لنادل يكون حتما مفتول العضلات، كل التأويلات والتبريرات قرأت حسابها جيدا، وما أدراني أن الجمع ينتفض من قدومي ويقولون لي: أنك أفسدت علينا لعبتنا حتى أبي معهم، ينهرونني مثل قط ويطرودونني شر طردة و بذاك أبقى مصمما ما حييت أن لا أرفض لأمي طلب سوى طلب في أن أبحث عن أبي، وبعد تفكير في كل النتائج والعواقب اهتديت واستجمعت قواي أن أقتحم المقهى اقتحاما وليحدث ما يحدث، وبينما أنا متقدم الصفوف لمحني أبي، فوسعوا لي المجلس حتى دنوت منه، همست في أذنه دونما مقدمات أن أمي تطلبه، فما كان منه إلا أن أجلسني بجانبه ريثما تنتهي هذه الجولة الأخيرة ونذهب بسلام.