يُحكَى أنه كان هناك ... قلب أَحَبَ و موعد ضُرِبَ هنا..
كذب الوعد.. و.. العقل سُلِبَ.. فضاع القلب..
بين الهنا والهناك..
خرجت غادة أخيرا.. خرجت كمن يهيم على وجهه.. كما يهيم الغريب وبه ألم.. لأوّل مرّة..
بعد يوم الفراق المشؤوم.. لم تكن تدري.. إلى أين المضي.. ؟
وأي الاتجاهات تسلك.. كل الشوارع تعرفها..
تحفظها..
لكنها اليوم تعاني التيه.. يعتريها إحساس بأنها ليست غادة..
أيام الحجر والتوّجس من المستجد الذي أربك شيئا من توازنها النفسي.. فتباطأ نبضها بالمكان.. وعشقها له.. كأنها وهي تسير وتسأل نفسها.. ما هو مصير تلك الأيام التي جمعت بين قلبيهما.؟ وتلاقت في زمن وجيز أفكارهما.. تشيد بينهما أسس الإنسجام والتوافق..
وهي تسأل نفسها في تجليات التفكير والتدبر.. انتبهت إلى أنها..أوصلتها خطاها إلى ذات مكان أول لقاء.. يوم لهث طيلة اليوم من أجل أن يقتني لها باقة ورد جوري..
وصلت إلى المكان.. فما وجدت لها مقعدا شاغرا..
هذا منتصف شباط.. وكأنه الصيف في ذروته.. جموع غفيرة تحتل المقاعد الصخرية والخشبية.. وكل ما يليق للجلوس ... ربما لأنه رفع الحجر..
أخيرا تنفس الناس، فانطلقوا متحرّرين من قيد الحذر والخوف من الفيروس المستجد..
جلست غادة على حافة إسمنتية تحيط بشجرة باسقة.. جلست تستظل بظلها أو أنها تريد أن تسترد أنفاسها..
اكتفت بشراء قرطاس من الكاوكاو المقشّر..
قالت: كما كان عادل يفعل.. إنه ليس لأكله.. إنما ليطعم به الحمام فتلك عادته.. وقد يضع حبة أو اثنتين في فمه.. يبقى يمضغها لساعات..
ربما ... سنرجع يوما إلى سابق عهدنَا..
ذاك اليوم.. كان يوم الفصول الأربعة.. المطر مع الصباح و حتى في منتصف النهار.. و البحر يغتسل بالقطر لإقامة الصلاة على صعيد بونة الطاهر..
شيء من البرد والرياح.. و - أيضا - شروق الشمس وشيء من الدفء.. نسائم بحرية مشبعة بالندى.. فتنشر شذاها.. أمواج منعشة.. لقحها الهبوب.. وسحر بونة الفاتنة الذي لا يقاوم.. و المعلق بحدائق قلوب العذارى.. مع الفنار بومضاته يرشد الحيارى والسهارى.. وملهم الشعراء الذين تسابقوا كالفرسان في وصف بهائها..
شباط يلفظ أنفاسه الأخيرة..
يلبس عباءة آذار ويتطهر من ذنوبه.. بقطر نافع..
هل سيشفع له ذلك عند السيد عام.. ويغتسل من درن الوباء.. ؟
لعلّه يحدث ذلك.. الرجاء أن يحدث الله أمرا..
قالت كأنها تحدث نفسها كما تحدثه
كنت أراه في كل الوجوه المتواجدة في ذاك المكان.. أتذكر جميل كلامه.. و منتهى بوحه..
القلب فاض بالحنين إليكِ فأرسى الشوق مراكبه على شواطئ خلجانك..
وترد.. بكل حب وشوق.. ضج بالحنين إليك..لقاء الأمس... ستبقى أبلغ كتاباتي أكبر أسراري وأغلى مكتسباتي..
في ذاك المكان.. كنت أنتظره.. ولم يأت.. جاء جد متأخر يومها.. لكنه أخيرا جاء..
تغير لون الطاولة.. الأزرق.. زرقة البحر.. وحتى شكلها..
باهت هذا اللون.. يميل إلى الرمادي..
لن نجلس هناك.. لو أتى..
حبيبان اتخذا من المقعد الصخري مجلس تناجيهما.. يتجاذبان أطراف حديث وردي.. هو ذات المقعد الذي شهد جلسة صلح بيننا..
هل نتصالح هذه المرة أيضا لنمضي معا..
أمر بعيد المنال.. حتى لا أقول مستحيل..قالت..
هذا ما كانت تخشاه.. واللّقاء هو ما كانت تتمناه بكل جوارحها..
من عادة غادة.. أنها تجيد الحلم و التمني..
رد عليها التفاؤل الذي يملأ قلبها لا شيء مستحيل ..
إن الذي جمع بينكما لم يكن متوّقعا..
توّقع الخير ... تجده ..
جميل.. غدا ..
غدا سوف تزهر بتلات الوفاء..
ويبور صبار الخذلان في قفار النسيان..
رمت للحمام آخر حبة كاوكاو «حَبَ الحُب»، كما يسميه عادل.. وهمت بالوقوف تكمل المسير على رصيف الشاطئ.. ورأته قادما إليها.. قاصدا الأمكنة التي ألفت لقائهم.. وكعادته يدخن ما تبقى من السيجارة.