حينما كنت أتسلل بين أكتاف الوفد المرافق لجنابها، لم أكن أتوقع أنها ستستقبلني بهذا الشكل. لقد كانت محاطةً بجدارٍ أسودٍ من كل الجوانب، إلا من جانب واحد. جدارٌ مبنيٌ من حرس ومسؤولين يرتدون أطقما سوداء، جدار صلب يصعب اختراقه، يقابلها جدار من زجاج، جدار الإعلاميين الذين يصوبون عدساتهم للوزيرة لالتقاط كل واردة وواردة.
لِلحظةٍ قلت في نفسي «إذا نجحت في اختراق هذا الجدار فربما لن أنجح في إقناعها بأن تصغي إليَّ. فأنا لا أحتاج تحضيرا مسبقا للكلام بقدر ما أحتاج للإصغاء. حينما يوفر الإصغاء أبوح بكل أريحية». لم يصغ إليَ واخترقتهم جميعا ولم أبالي، كان أحدهم يسحبني للخلف بعنف حينما نطقتُ بأول كلمة لها، كأنه يريد لشيء ما ألا يحصل أو لا يقال.. لاحظت هي ذلك الأمر وقالت: «خليه يهدر». بصرف النظر عن ما قُلته لجنابها،استوقفتني عبارة واحدة وهي «خلّيه يهدر».. لم تكن هذه الكلمة مجرد كلمة عابرة بالنسبة لي.. فأنا فنان والفنان لا يمر بالكلمات والأحداث مرور النُسخ.. الفنان حساس جدا. أتفحص الكلمات والمواقف كما يتفحص الكفيف أركان غرفته، كثيرا ما أقف شاردا مذهولا أمام الأمور التي تراها النُسخ شيئاً عادياً لا يستحق التأمل حتى يظن بي أني مجنون أو غريب أطوار.
لم تقل خلّيه يهدر فحسب، بل سحبتني منه إليها وأعطتني مساحة كافية للبوح ولو قليلا لنقل هموم المثقفين في ولايتي.. إنها تعلم أنها أزمة بوح ومصارحة.. لم تقل خلّيه يهدر بالنسبة لي بل إنها أبانت على نيتها في الإستماع إلى الصوت الخافت خلف الجدران السوداء التي تحجب التمتمات التي يخفيها الضعفاء في حضرة المواكب.
لم تقل خلّيه يهدر فحسب، بل أعطت يدها البيضاء إلى تصالح، تعلم الفيلسوفة أن الشاب المثقف يبحث عنه كثيرا وقد أتعبه البحث وكلّفه ذلك أملاً مفقوداً.
لم تقل خلّيه يهدر، بل قالت لاأريد أن أسمع و أرى ما أعد خصيصا لهذه الزيارة، أنا لا أنتظر الوصول إلى المحطة بل إلى ما بعد المحطة، أريد شيئا من الكواليس.
لم تكن خلّيه يهدر عادية بالنسبة لي بل كانت تحمل عدّة معان..
لو أن كل مسؤول ينتشل الضعفاء من خلف الجدران السوداء ويصغي إليهم بدل الإصغاء للنسخ التي تحفظ ما ستقوله لكل مسؤول، لكنا بحال أفضل..
«خلّيه يهدر» لا تهن المثقف.
