يجلس عمي داود وكعادته مع قطعانه من الأغنام التي يهتم بها كثيرا، الأغنام بالنسبة له كل شيء، يمسك بقصبته ويضعها بين شاربيه ثم ينفخ فيها كي يخرج لحن وصوت الماضي الذي يربط الحاضر وبهذه النغمات التي يحيي بها ذكرياته الجميلة.
ثم يردد ياي.. ياي.. ياأأأ... ياي.. «هاذي القطعان وهذا بر الرخلة ولي يحوس يشوف يزور المكان ما عندي الزهر وهاذي محنة رسمي على الأرض. ونظمي وهذا الكلام.
ثم يسكت ويحمل قصبته مرة أخرى ويعزف مجددا اللحن الذي عشقه وتمنى لوتعود الأيام الجميلة مرة أخرى. كان عمي داود يحب رعي الغنم كثيرا، ووجد فيه أنسته وضالته كي يبقى بعيدا عن المشاكل والهموم اليومية. لكن عمي داود الآن أصبح شيخ طاعن في السن يكاد ظهره ينحني إلى الأرض بعدما أرهقته السنوات والشيب ملأ لحيته وشعر رأسه. يتردد دوما على الأسواق من سوق إلى آخر يتنقل ليبيع بعض الخرفان والمواشي التي يقوم بتربيتها. كان منذ زمن بعيد وهو يعمل هذا العمل ومن أجل أن تبقى هذه الخرفان التي يقوم بتربيتها، منذ مدة طويلة، بل صارت همه الوحيد في هذه الدنيا. عمي داود عرفه الناس في السوق وأحبوه كثيرا، لأنه إنسان مخلص في تجارته. أيام الشباب كانت تذكره بنشاطه وقوّته فلا يتعبه حر الصيف ولا برد الشتاء ولا تساقط الثلوج، ومنذ صغره تربى وترعرع على العيش والمكسب الحلال، إنها حياة البركة. كان عمي داود يشتري ويبيع قطعان الأغنام أحيانا يذهب إلى الجنوب ثم الشمال وأحيانا إلى الشرق ثم الغرب. يتنقل من سوق إلى آخر وكان همه الوحيد هو الكسب الحلال يعتمد في كل شيء على نفسه، هولا يملك راتب شهري ولا يملك صكوك بريدية حتى الإعانة كان لا ينتظرها ولا ينتظر المساعدة من أحد. همه هو تربية أبناءه على كسب اليد والكد وبذل الجهد الذي تعلمه من هذه الدنيا.