أطلّ من شرفتي صباحا، وقد دغدغت خيوط الشمس الذهبية أحزاني المتراكمة، ولامست تضاريس سحنتي السمراء هنيهة.. ها قد ولىّ بصيص الفجر ضاحكا، وقد أيقظني دون استئذان، وطرد عني نواميس الجراح، لحظتها أقفز مترنّحا من مملكة سريري الخشبي الذي كبلني طيفه واحتوتني هواجس ليله الأسود في جلسات سمر حميمي رفقة أحاديث القمر الذي سحر المكان بتألقه المعتاد، أطلّ وأمعن النّظر إلى غصن غير بعيد، وقهوتي العاشقة لا يزال لعابها يغسل شفتي؛ تمنحني مساحة للبوح المنشود، وتأبى مفارقة اشتهاءاتي اللذيذة كل صباح..
ويأسرني غصن العنادل التي قبلت شفاه الفجر، ضاحكة مستبشرة ليوم مفعم بأحلام الصبا؛ تقفز تارة على أهداب السماء، وترسم بألوانها الزئبقية فضاءات الشجر الأخضر تارة أخرى؛ يا لسعادتهما المؤقتة.. !! التي تزهر المكان، أجدني أنصت لموسيقاهما الحانية رفقة صباحاتهما الباردة، وصدى ألحانهما ينعش ذاكرتي المهمشة، ارتشف آخر قبلة من ندى قهوتي السّمراء، لأعلن لها نهاية مشواري رفقتها، ماسحا وجه فنجاني الأبيض بيدي الحانية، وأواصل تراتيل عشقي مع ألحان العنادل ذي الأصوات الشجية؛ أسافر في قافلتهما، ورذاذ الصباح يبلل خطوط وجهي المعفّر بأتربة الحزن الرمادي.. هكذا أنا.. !! أشتهي عالمهما الآسر عطره ألوان الروح، أتطلع خلسة لبسمات العنادل التي تحاورني بصمتها الخجول كصمت الليل في بهرجة الروح.. عنادلي العاشقة؛ أنشودة الصّباح المزدان فراشاته في موكب فرح شائق..من شرفتي لازلت أرقب ذلك الغصن المائل، أتنفس بعمق وكلّي انتشاء كرضيع مستوطن حجر أمّه، تناجيه فتستجيب أحلامه الصغيرة إليها، إلى أن يصافح الكرى جفونه البريئة.. هكذا هي عنادلي الراقصة بين ناظري.. !!
تسمو بي أفق صباحاتي النادرة، وهي تهتف لي من بعيد، مرسلة إلي بريدها العاشق، وأجدني ألتهم حروفها المتدحرجة على أرصفة الورق ضاحكا، حينها أحن لجرعة أمل أحتسيها وأنا أحدثهما وألاعبهما، واستظل ببرودة أجنحتهما الدافئة كل صباح كوثري متجدّد، أشم ندى أزاهيرهما الراقصة؛ هكذا عهدتهما منذ زمن ليس ببعيد.. !! وأنا أتلذّذ شوقا لأهازيج أشجانهما، وأطرب نشوة لأغانيهما الرومانسية.. وتدنو شموسهما لمعانقة روحي؛ مرتدية أثواب الزفاف سائرة على جسور شرفتي، وهي تسكب ألحانها الأخيرة في ممرات الذكرى.. معانقة كلماتها الهاربة.. أتعثر حينها، وألحق بهما سريعا، بارد القدمين.. علّني أمسكهما، وأتوسّد حناياهما الصامتتين، وترفرف عنادلي بجناحيها في لحظة وداع ساخر، ترسم لوحة باسمة في سمائي البيضاء، أتوارى حينها في ثوب عاشق تتعقبني خطواتي المثقلة، أهيم بناظري يمنة ويسرة، فأجد أوراق الشّجر يحنّ لظلال عروسه الراحلة في حضرة الغياب.. وقد نثر الربيع عبراته.. أجول مرة أخرى بناظري.. لحظتها تحضنني أغصان الشّجر الشاحب لونها... تسح دموعها عشقا!! يا للهول..!! لقد فقدت ألحان الماضي.. وارتسمت خطوط أهازيجها في صباحات مخملية باردة بريشة عاشق متمرس