عاشت لأجلهم فقد تركها زوجها وحيدة ورحل عنها للأبد، فتحملت من أجلهم كل شيء، وعانت من البرد والحر والجوع والألم، وهي تعمل كل وقت كي تقوم بتربيتهم أحسن تربية، حياتها كانت قاسية جدا سعادتها كانت بوجود أبنائها حولها وهم يلعبون ويمرحون وهم بالنسبة لها العالم بأسره.
توقظهم في كل صباح للذهاب للمدرسة كانوا يبتسمون لها ويردّدون أمي صباح...صباح الخير هل أعددت لنا الفطور تبتسم لهم هيا انهضوا إنّه الصباح هيا يا أولاد لقد مرّ الوقت عليكم إنه وقت المدرسة كانوا كجسد واحد يلبسون ملابسهم ويخرجون واحدا تلو الأخر وهم واقفون عند باب المنزل تخرج والدتهم بعض النقود وتعطي البعض منها لكل واحد كي يشتري ما يلزمه ثم يذهبون للمدرسة، كانت تنظر لهم نظرة الحياة وأملها لو يكبروا بسرعة ويحملون عنها مشقة هذه الحياة ثم بعد ذلك تخرج من المنزل كي تذهب إلى عملها كانت تعمل منظفة في منزل أحد الأثرياء. نعم إنّه الثّراء الفاحش الذي جعل الإنسان ينظر لنفسه وكأنّه يملك كل شيء وعائلة تعيش الفقر المعدوم وهي راضية بهذا القدر، حياة صعبة لهذه المرأة المسكينة التي صارت لا تعرف مصير حياتها وهي بين أوراق هذه الحياة.
يوم بعد يوم من العمل والتعب والمرض وتقلب الحياة، وها قد كبر الأبناء واشتد عظمهم، درسوا واجتهدوا حتى نجحوا وتخرّجوا من الجامعة، وأصبح كل واحد مستقل في مكانه بعد أن وجد عملا يليق به، وأصبح له مكانا الذي يرتاح فيه من تعب ووجع السنين، وها قد تغير حال الأبناء وتزوّجوا وعاشوا حياتهم على واقع جميل وأيام سعيدة بعد أن نسوا أيام التعاسة والألم، لكن الأم عاشت بينهم وكأنها غريبة لم تعرف أن مصيرها سيكون هكذا، وأصبح البناء ينظرون لها وكأنها عبء عليهم فأصبحوا لا يطيقون رؤيتها ووجودها بينهم فتغيرت تصرفاتهم نحوها، لقد حزنت الأم المسكينة كثيرا وتذكرت أيام الماضي وزوجها المتوفي الذي تركها وحيدة تصارع هذا العالم وحتى الأبناء صاروا لا يرغبون وجودها وتنكّروا لها فتذكّرت أيام طفولتهم عندما كانت توقظهم بصوت خافت كي يذهبوا إلى المدرسة كانت دوما خائفة و قلقة عليهم وها قد كبروا وتغيرت حياتهم، ولكن ماذا عنها من يعيد لها أجمل أيام شبابها والدموع التي مسحتها لحظات وحدتها وهي تتضرّع لله أن يطيل حياتها وترى أبنائها في أحسن حال، لقد تخلّوا عن سندهم في هذه الحياة وغاب نور الحياة عندما يغيب فيها شروق وجه الأم، لقد تخلّوا عنها فذهبت تحمل أغراضها كي ترحل بعيدا إلى آخر مكان وتعيش فيه آخر فصول حياتها وهي تبحث عن المكان الذي يأويها وأي طريق هذا الذي ستسلكه ولكن لم تجد فيه أحد.
وطال الإنتظار على طريق الحياة وهي تسير وسارت من دون توقف حتى شاهدت بناية وبها لافتة مكتوب عليها دار المسنين، فدخلت إليها ولم تخرج منها وأكملت بقية حياتها، وفي آخر الأيام كان هذا يومها الأخير الذي انطفأت فيه شمعتها وللأبد، وذابت وسط شموع الحياة واحترقت من أجل الأبناء.
إنّها طباع الإنسان الذي يختلف عن الآخر، والبشر أنواع والأصيل هو الطيب الذي يحن قلبه كل وقت، ويسامح ويمحو كل الأخطاء.