قصة قصيرة

اختناق

بن يحي أمنــــــــية

نظر إلى نفسه في المرآة، عيناه المحمرّتان اللتان أحاطتهما هالة سوداء، تحكيان عن لياليه البيضاء وسهره الدائم، حاجباه المعقودان اللذان يرسمان خطوط تجاعيد على جبهته ينطقان باسم غضبه، ملامحه الذابلة وشحوب وجهه، شفتاه متزمتة  كأنهما تكبحان انهياره... تأمّل نفسه جيّدا، لم يرعبه انعكاسه في المرآة بقدر ما يرعبه انعكاس روحه... سار ببطء إلى النافذة وفتحها فباغتته نسمات ديسمبر الجليدية، إعلان صريح عن حلول الشتاء ضيفا على المدينة، نظر إلى البدر المكتمل الذي ألقى نوره على يديه الملطختين بالحبر، تأملهما مليا ثم اغرورقت عيناه بالدموع، وبسرعة قبل أن تنفلت عبراته من محجرها كفكفها بيده، ألقى نظرة أخرى على غرفته فسقط بصره على مكتبه، أين تقبع مخطوطته الأخيرة وبعض الأوراق المتناثرة هنا وهناك، والكثير من الحبر الموضوع بجانب صفحات عذراء لم يمسسها قلم من قبل.
أطلق تنهيدة طويلة قبل أن يغلق شباكه مجددا ويرتمي على سريره متكورا على نفسه، على انهياره وعجزه، على فشله... رمق صورته الموضوعة على طاولة بجانبه بازدراء واضح، حملها وحدق فيها ثم همس كأنه يحادثها: «أيها الفاشل... أيها العاجز» حملق فيها مجددا ثم رماها بكل ما أوتي من قوة فتحطم إطارها قطعا صغيرة متناثرة، همّ بالنهوض ومواجهة نفسه في المرآة مجددا، ثم صرخ في وجه انعكاسه بمرارة جلية في صوته:
«سنتان! سنتان أيها الفاشل لا تقوى على كتابة جملة مفيدة! سنتان من السهر الدائم وأكواب القهوة الباردة وأقلام الحبر المكسورة، وأين النتيجة؟ سنتان من السفر وقراءة الكتب والحديث إلى الناس بغية الإلهام والآن ماذا؟ أين إلهامك اللعين؟ أين هي موهبتك؟ أم قد اتفقا على خيانتك والهروب بعيدا عنك! «سقط على ركبتيه وحمل رأسه بين يديه وتمتم «سنتان حبست فيهما نفسي، وها أنا أختنق»... شرع في البكاء كطفل صغير تركته أمه، ولكن الفرق أن الكتابة كانت أمه الحنون، متنفسه، أكسجينه، إكسير الحياة... وهاهو الآن عاجز عن كتابة حرف واحد قد يحرر مكنونات نفسه ومشاعره المحبوسة التي باتت تنهش قلبه سعيا للخروج...

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024