بعْثٌ جَديدٌ

إيمان بورقبة / الجزائر


انْسَلَخَ النَّهَارُ عَنْ دُجُنَّةٍ مُسْوَدّةِ الطُّرَّةِ  وَأسْفَرَ عنْ بَيَاضِ الغُرَّة، مُسْتَنْطِقًا الأَفْوَاهَ بِالتَّسْبِيحِ خَلْفَ نَوافِذِ مَسْجِدِ الإِمَامِ الغَزَالٍّيّ؛ هَذَا الذِي طَرَّ نَفِيسًا سَنَةَ عَشَرٍ وَ أَلْفَيْنِ فِي رَوْضَةٍ رقَّتْ بِهِ حَوَاشِيهَا وَتأنّقَ بِالمُرُوجِ وَاشِيها يُقَالُ لَهَا الأوْرِيسِيَّةُ؛ وَهِيَ بَلْدةٌ بَذَلَتْ النَّعِيمَ لِوَافِدِيهَا حَتَّى مَضَى فِي أَثَرِهَا أَصْحَابُ الطُّمُوحِ .
فَإِذَا رَمَتْ الشَّمْسُ بِجَمَرَاتِ الظُّهْرِ مَثُلْتُ عِنْدَ مَدْخَلِ المَسْجِدِ وَ دَارَ هذَا الحَدِيثُ الشَّحيحُ بَيْنِي وَبَيْنَ مُعَلِّمَةِ القُرآنِ  
_ مَا الذِي حَمَلَكِ عَلَى الانكفاء إْلَى هُنَا مُجَدَّدًا ؟
_لَقَدْ أَرَتْنِي الأَحْلَامُ شَيْخِي غَيْرَ مَرَّةٍ يَتْلُو عَلَيَّ قَوِلَهٌ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ  فسَاقَنِي هَذَا الخاطِرُ العَزِ يزُ).
انْصَرَفَتْ عَنِّي وَ تَرَكَتْنِي لِذَلِكَ الخَاطِرِ يُصَرِّفُنِي كَمَا أُرِيدُ ، حَتَّى مَدَدْتُ يَدِي أَلْمَسُ زَرَابِيَّ وَ أَعْمِدَةَ المًصَلَّى فَاخْتَلَّتْ لَهُ نَوَامِيسُ جِسْمِي وَ شَعَرْتُ بِمَوْجَةِ حُبٍّ تُحَرِّكُنِي بَيْنَ زَوَايَاهُ . ثُمَّ هَا أَنَا أَمِيطُ سَتَائِرَ النّافِذَةِ لِيُخَاطِبَنِي مَشْهَدُ النُّورِ يَنْفُذُ مِنَ الأُفُقِ كَأنّهُ السَّهْمُ يَمْتَدُّ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهِ حَتّى يُوقِظَ الأرْضَ وَ السّمَاءَ جَمِيعًا وَ يَأْوِي إِلَيْهِ الحَصى فَيُصَوِّرُهَا عَقِيقًا وَ يَصُبُّ عَلَى الغَابَةِ المُقَابِلَةِ حُسْنًا ، فَتَتَكشَّفُ عَنْ عَبْقَرِيٍّ يَنْشَقُّ بِوَادٍ سَخِيٍّ يَرفُلُ مَاؤُهُ رَغْمَ قَائِمِ الهَاجِرَةِ . كَانَ هَذَا الدّرْسُ الذِي لَقَّـنَتْنِيهِ مَفَاتِنُ الأوريسيَّةُ بِقَلَمِ مَسْجِدِ الغَزَالِيِّ خَلِيقًا أَنْ يَكْتَنِفَنِي بِهِ الفَتْحُ فَلَا تَعدُو عَلَيْهِ عَادِيَةٌ ، حَتّى لَوْ كَانَتْ كُلُّ الظُّرُوفِ حَوْلِي أَدْعَى إِلَى الضُّعْفِ وَ أَحرَى أَنْ تُوَرِّطَنِي فِي الفَشَلِ .
 جَنَحَتْ الشَّمْسُ إِلَى مَغْرِبِهَا فَانْطَلَقْتُ إِلَى البَيْتِ مَوفُورَةَ الطَّاقَةِ ، لَا أَجْلِسُ إِلَى أَحَدٍ مُنْذٌ ذَلِكَ اليَوْمِ إِلّا أَحَسَّ مِنِّي جَلِيسِي نَفْسًا تَتَوَثَّبُ إلَى المُثُلِ العُلْيَا وَ عَقْلًا لَا يَرَى حَوْلَهُ إِلَّا خَيْرًا مُطْلَقًا؛ يَسْبِغُ عَلَى كّلِ مَا يَشْملُهُ جَمَالًا و خِصْبًا.
 وَ مَا هِيَ إِلَّا أَشْهُرٌ يَسيرَةٌ حَتَّى نَطَقَ المَدَدُ مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهِ وَ مَا خُضْتُ صَعْبًا إِلّا فَتَحَ لِي صَياصِيهِ  فَأَصَبْتُ الاعْتِمَادَ فِي التَّعْلْيمِ القُرْآنِيِّ وَ عُدْتُ إِلى سَمِيرِي مُعَلٍّمَةً فِيهِ كأجَلِّ مَا يَكُونُ تَمَامًا كذَلِكَ النُّورِ الهزيل الذِي اشتدَّ وقت الهَجيرِ. وَ لَمْ يَزَلْ الحَالُ يُحَرِّكُ المِسْكَ فَتِيقًا حَتّى تَهَادَتْ الأَنْبَاءُ أَنّهُ تَمَّ قُبُولِي فِي مَعْهَدِ الهَنْدَسَةِ المِعْمَاريَّةِ  وَ تَمَوْضَعَتْ هِيَ الأُخْرَى الهَندَسَةُ المِعْمَارِيَّةُ مَوْضِعَ الوَاسِطَةِ مِنَ العِقْدِ بَيْنِي و بَيْنَ الوَفَاءِ الذِي كُنْتُ أَتَعَاطَاهُ مَعَ بَلْدَتِي، إِذْ كَانَتْ تَتَراءى لِي آكَامُهَا وَ رِيَاضُهَا وَ قِبَبُهَاَ خِلَالَ التّصْمِيمِ فَتُلْهِمُنِي بَرَاعَةً صِرْفَةً. وَ لَا أُنْكِرُ أنّ الهَنْدَسَةَ تَشُقُّ عَلَيَّ فِي بَعْضِ المَحَطّاتِ فَأَحمِلُ مَرسَمِي إِلَى المَسْجِدِ لِيَنْفَكَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيَّ بِلَمْسَةِ سَاحِرٍ ...
لِلَّهِ دَرُّكَ مَرْتَعًا للانشِراحِ وَ يَا دَامَ عِزُّكِ أَيَّتُهَا الأرْضُ الكَرِيمَةُ .. لَقَدْ عُرِضَ عَليَّ أَنْ أًغَادِرَكِ فِي بَعْضِ شَأْنِي فَمَا هِيَ إِلّا دُمُوعٌ غِزَارٌ عَلَى وَجْهٍ نَاضِرٍ قَدْ أَدْرَكَهُ الذُّبُولُ و بَيْنَ يَدَيَّ دَفْتَرِي أُفْضِي إِلَيْهِ بِهَذِهِ الخَوَاطِرِ التِي تُفَرِّقُ نَفْسِي لَعَلَّ السُّطُورَ تَجْمَعُهَا وَ تِلْكَ طَالِبَتِي:  تَسْأَلُنِي فِي هَذِهِ الأَثْنَاءِ
_لِمَاذَا لَا تَكْتُبِينَ فِي غُرْفَتِكِ ؟
:فَأُجِيبُهَا  
 لَقَدْ عَاهَدْتُهُ أَنْ أَفِيضَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ خَطْبٍ جَلِيلٍ وَأَخَذْتُ مِنْهُ وَعْدًا بِأنْ لَا يَخُونْ .

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024