صبوحة الوجه خفيفة الروح تستحي في وقار ، و ابتسامة في محيا سيدة بيت و عائلة كبيرة مبدية هيبة احترام شديدة ، يقول عنها أحفادها أنها ركيزة و مرجعية مثالية في القدوة و العمل الوطني ، الكل يعتز و يفخر بها ، فهي قبل أن تكون الزوجة و الام و الجدة ، كانت واحدة من القليلات اللائي نشطن في حرب فرنسا دون أن تبوح بسرها لزوجها الفدائي أيضا ، و كانت بشكل سري بمثابة ورشة في خياطة راية الجزائريين بألوانها الأحمر و الأبيض و الأخضر.
بداية الحكاية ...
هي في عقدها الثامن الا أن الزمن توقف عند حسنها و نور أشع من وجهها البريء ، تضع نظارات زادت في هيبة اكتسبتها مع نقش الايام و السنين ، التقتها « الشعب « في جو ممطر و بارد من أيام الشتاء ، كانت تجلس قبالة زوجها و تستعيد معه في ايماءات ذكريات شبابها الاول تارة ،و تارة أخرى يشتركان في التعليق مشاهدة مقابلة كروية للخضر ، و في الوسط موقد أطلق حرارة هادئة لطف جو غرفة ملائكية في لونها و ناسها .
قبلت جبينها الدافئ و جلست الى جنبها وزوجها الشيخ الوقور و قد جاوز الـ 100 ، ينكت و يتبسم كأنه ملاك بريء رغم المرض و تعب الزمن ، قالت الخالة « حليمة « من عائلة بولالة وهي الصادقة بالشاهد و الدليل .» كان العام 1953 ، حال الشعب الجزائري لا يدعو للمسرة ، ظلم عدو كافر جائر لا يرحم و لا يشفع فرض تواجده بقوة النار و الحديد ، رزقت في تلك السنة بولد أسميته استجابة لطلب أمام الحي تيمنا بالنصر على العدو و اختار له من الاسماء « نصرالدين « ، و كانت فاتحة خير علي و على الجزائر .»
واضافت الخالة حليمة :» حل علينا عام الثورة المظفرة ، أيام لا تنسى و استذكارها ، يبعث الفرحة و السرور في القلب ، كان زوجي ( العم حسني الطيب ) يعمل في الفلاحة و اعمال حرة أخرى في الظاهر فقط و سائقا لدى أحد الفرنسيس المدنيين ، لكنه كان في حقيقته « مُسبلا « يجمع التبرعات لفائدة جبهة التحرير الوطني و يشوش على عسكر فرنسا بأعمال فدائية ، و كان يخفي عنّي امره كما أخفيت أنا حقيقتي عنه الى ما بعد الاستقلال ، لم يكن أدري بأنه سيأتي يوم أشارك في عمل أقدمه لبلدي و وطني ، و كانت البداية مع شقيق زوجي ، الحلقة المشتركة في التواصل بيني و بين الثوار المجاهدين .»
خياطة الراية و الوطنية وإخفاء السلاح و غسل ملابس الثوار مهمتي ...
مرت الايام و تعاقبت سنوات الثورة الاولى ، و كان شقيق زوجي الشهيد يأتينا
على أنه ضيف زائر ، يحمل قفته و فيها من السلاح أقوم بإخفائه داخل فرن خبز او كسرة « المطلوع «، و أحيانا ملابس المجاهدين أغسلها ، لكن الكثير من العمل كان يتركز في تحضير الطعام و خياطة علم بلدي الجزائر ، و كل ذلك كان يحدث في وقت مبكر من فجر كل يوم تقريبا ، أضع ما اخطت في كيس كبير ، و يحمله شقيق زوجي تحت جنح الظلام و يختفي كأنه طيف ، و العجيب أن بيتنا كان يجاور ثكنة لعسكر فرنسا المتجبر ، وهو ما كان يبعد عنه الشبهات و لا يدعو للشك أو الريبة ، رغم أنه في واحدة من حملات التفتيش للعسكر كاد يفتضح امري و يكتشف العسكر سري ، لكن الله ستر و أعمى جند فرنسا الظالم .
استرجاع الاستقلال في 62 و افتضاح سري و سر زوجي ...
و هكذا كانت أيامي الى أن أكرمنا الله بيوم استرجعنا فيه حريتنا و استقلالنا ، و علم زوجي وقتها فقط بما كنت أصنعه ، و علمت أنا بدوري عن مهمته الجهادية ، و تحررنا من الخوف و القهر و الظلم و بطش الاستعمار ، و عاد الامن و الامان بيننا .
توقفت الخالة حليمة عن الكلام وواصلت بعد تنهيدة:» هكذا كنت في أيام شبابي الاول ، و تسر أمرا أنها بادا لا هي و لا زوجها تحصلا على امتياز مادي ، سوى شهادات اعتراف فقط ، و قامت منذ سنوات بتسليم قسمة المجاهدين في البليدة ، ماكينة الخياطة التي كانت تستعملها في خياطة الاعلام ، و واحد من تلك الرايات المقدسة و الغالية ، و هي اليوم تنعم بعيش بسيط رفقة زوجها طريح الفراش ، تدعو للجزائر و للجميع بالامن و الامان و الخير و العافية .»