ساهمت المرأة الجزائرية بكل بسالة وإخلاص في الثورة، وأمثالهن كثر منهن الشهيدة مسعودة باج المدعوة مريم، المولودة بتاريخ 7 ماي 1933، تربّت وسط عائلة محافظة ميسورة الحال، نشأت بين خمسة أولاد، وتعلّمت في المدرسة الإبتدائية الفرنسية بمدينة الأصنام الشلف حاليا، كانت مسعودة تلميذة نجيبة كما كانت تتحلّى بأخلاق حميدة.
خلال دراستها أحسّت بالفوارق الإجتماعية بين الفرنسيين والجزائريين، فتبلورت أفكارها ممّا جعلها تتفتّح على الواقع المر الذي تسوده سياسة تجهيل الجزائريين التي كانت تنتهجها فرنسا، ممّا أدّى إلى حرمان أغلبية الجزائريين من حق التعليم، كان هذا الشعور بالإضطهاد والإستبداد بداية لتبلور وعيها، لأنّها أدركت أنّ فرنسا طبّقت على الجزائريين قاعدة الثالوث الرهيب (الجهل، الفقر والمرض) حتى لا تقوم لهم.
بالرغم من هذه الظروف الإستعمارية جعلتها تصر على مواصلة دراستها بكل إرادة وعزم، ممّا جعل وعيها الوطني يستوعب كل الوقائع والأحداث التي عرفتها الجزائر من قبل، ولاسيما مجازر 8 ماي 1945 التي سقط فيها خمسة وأربعون ألف شهيد في كل من سطيف، قالمة وخراطة وغيرها من المدن والقرى الجزائرية، اعتبر هذا الفعل جريمة ضد الإنسانية ووصمة عار في جبين فرنسا الإستعمارية.
كان حلم الشّهيدة أن تصبح قابلة، وبعد زيارتها لخالتها في المستشفى أعجبها منظر الممرضات وهن يرتدين مآزرهن البيضاء، فسألت إحداهن عن السبيل الموصل لممارسة مهنة التمريض، فأخبرتها بوجود مدرسة لتكوين الممرضين باب جديد، مستشفى أيت إيدير حاليا بالعاصمة، وبعد مراسلتها للمؤسسة المذكورة جاءها الرد بالقبول بعد 15 يوما، ورافقها والديها إلى المدرسة، بحيث سجّلت في بداية سبتمبر 1953 لتبدأ تكوينها المهني في إطار نظام داخلي يلزمها المداومة كبقية زملائها والقيام بالمناوبة بالمستشفى ليلتين كل أسبوع.
في يوم من الأيام كانت مسعودة تسير بحي باب الوادي، وصل إلى سمعها صوت شجي أثّر في وجدانها، وكان ذلك نشيد «من جبالنا طلع صوت الأحرار»، فقرأت اللوحة الموجودة بأعلى المدخل وقد كتب عليها «نادي الكشّافة الاسلامية الجزائرية»، فتوقّفت للاستماع إلى الحناجر الكشفية وتقدّمت بالداخل وجدت مجموعة من الشابات والشباب تقودهم المنشطة الكشفية «حورية»، فانخرطت معهم في هذا التنظيم الكشفي بعفوية وتحفظ الأناشيد وتستمع إلى دروس في الوطنية، وهذا ما جعل وعيها السياسي يزداد نضجا، فتعرّفت على المقاومات الشعبية والانتفاضات التي قمعتها فرنسا.
ساعدتها الحركة الكشفية على أن تقف مع شعبها ببسالة أثناء زلزال الأصنام الذي ضرب المنطقة في 09 سبتمبر 1954، فأدّت دورا فعّالا في مساعدة المنكوبين بالرغم من غيابها عن الدراسة أسبوعا، إلا أن فعلها هذا قد شفع لها لدى إدارة المدرسة عدم إقصائها من مواصلة دراستها. واصلت مسعودة نشاطاتها بين صفوف الكشافة، لكن الحديث عن الثورة شغل جل تفكيرها رغم أن العام الثاني من التربص الذي كانت تقوم به قد أوشك على نهايته.
في صيف 1955 عادت من جديد إلى عائلتها في جو مشحون بالإضطرابات والعمليات الفدائية المركّزة، وهجمات جيش التحرير على مراكز المستعمر لزرع الرعب والخوف في صفوف المعمّرين والتصفية الجسدية للمتعاونين مع فرنسا، من عملاء وخونة، لما بلغت الشّهيدة مرحلة النضج اعتنقت مبادئ الثورة ولعبت دورا بارزا في الخطاب السياسي والتعبوي، استطاعت أن تقنع الكثير من شباب الناحية للانخراط في صفوف الثورة، وكانت تتأسّف لكونها امراة لا تستطيع التنقل إلى خارج المدينة للجهاد مع أخيها الرجل، وكانت تقول للشباب: «لو كنت رجلا لما تأخّرت لحظة واحدة عن أداء الواجب الوطني المقدّس».
إنّ عملها دفع البوليس الفرنسي إلى مساءلة أبيها عن نشاط ابنته وتحرّكاتها المشبوهة، لذلك أضحت مسعودة تحتاط للأمر وتعمل في سرية تامة، انتقلت مرة أخرى إلى العاصمة لمواصلة تربّصها في تكوين الممرّضين وإعداد العدّة للدخول في المجال التطبيقي، ومع ذلك لم يكن هذا الأمر يهمّها كثيرا مثلما كان يهمّها النشاط الثوري للمجاهدين والوقوف إلى جانبهم ودعمهم بكل الوسائل.
استجابت الشّهيدة لنداء الثّورة، وكان يفصلها شهر واحدعلى حصولها على شهادة تأهيل كقابلة، وأثناء تواجدها عند صديقتها حورية حضرت اجتماعا لمناضلي جبهة التحرير الوطني، حيث التقت بعدد من الطلبة الذين كانوا يدرسون في الطب لاسيما الذين كانت تدرس معهم، حيث حدّدت معهم موعد الإلتحاق بالثورة في الأسبوع الأخير من شهر جوان 1956، دون أن تعلم أسرتها بما عزمت عليه حتى اليوم الذي قرّرت فيه الصّعود إلى الجبل، سلّمت على إخوتها ووالديها اللذين اندهشا لذلك، بعد أن جمعت أغراضا قليلة في حقيبتها إلتحقت بصفوف المجاهدين بالولاية الرابعة، حيث عرفت باسم «مريم».
أشرفت على تأهيل المجاهدين والقيام بالإسعافات أثناء المعارك
باشرت مهمة التمريض إلى جانب رفقاءها في النضال، وكانت تشرف على الطبخ والتنظيف وتقوم بزيارة الأهالي بالمنطقة للإطمئنان عليهم وتقديم العلاج اللازم لهم، وخاصة المسنين والأطفال منهم، بعد ذلك انتقلت إلى جبال الزبربر مع الفرقة التي كانت تعمل معها، لتقدّم مساعدات من أجل تكوين مركز هناك ثم تنقلت إلى جبال زكار بمليانة لفتح مركز آخر لتكون أول ممرضة بالمنطقة الرابعة - الولاية الرابعة - بعد مؤتمر الصومام، وبالمكان ذاته كوّنت مصحة منظمة مع بعض المجاهدين الذين أشرفت على تأهيلهم في الإنقاذ والإستعجالات، كانت تربطها بسكان المنطقة علاقات ودية، فكانت تزودهم بالأدوية وتمدهم بالنصائح الصحية.
ومن المعارك التي خاضتها، معركة غابة «بيسا» بجبال الظهرة ناحية تنس، حيث جرت معارك طاحنة استمرت أياما استعمل خلالها الجيش الفرنسي كل أسلحته الثقيلة من مدرعات وعربات مجنزرة إلى جانب الطائرات الحربية، غير أنّه عندما لم يستطع اكتساح المنطقة لجأ إلى استعمال الأسلحة المحرمة دوليا مثل النابلم، وعندما اشتد الوضع وتفاقمت خطورته نظرا لكثرة الجرحى انتقلت «مريم» لعلاجهم في الميدان، فقدّمت لهم الإسعافات الأولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في نهاية 1959، قرّرت قيادة الولاية الرابعة إرسال مجموعة من الممرضين والممرضات إلى الدول الشقيقة من أجل مواصلة التكوين، فكان اسم الشّهيدة على رأس القائمة، وعند اجتياز المجموعة للحدود الغربية فوجئت بكمين نصبه لهم العدو، ممّا أدّى إلى استشهادها مع رفاق لها.