البطل العربي بن مهيدي في ذكرى استشهاده

حكيم الثــورة وصندوق أفكـارهــا

سهام بوعموشة

 الشهيد العربي بن مهيدي الملقّب بحكيم الثورة، وصندوق أفكارها، إستطاع إنشاء شبكات دعم في إسبانيا والمغرب ومصر لفكّ الحصار المضروب على المنطقة الخامسة، عُرف بحكمته ورزانته وحيويته الخارقة وبدوره الريادي في مؤتمر الصومام، قال عنه المرحوم عبد الحميد مهري: “قام الأخ العربي بجهد كبير في نجاح مؤتمر الصومام وأعطى للثورة بعدا كبيرا في جمع الجزائريين على صعيد الكفاح”.

كلّما حلت ذكرى استشهاد البطل بن مهيدي صاحب النظرة البريئة والثاقبة، نستحضر كفاحه الصادق الذي لا تشوبه شائبة، لكننا أغفلنا بن مهيدي الرجل الإنساني الحنون، الهادئ، والمتواضع، وهذا ما تجمع عليه جل شهادات من عاشوا معه من رفقاء السلاح. مقولته للعدو: “إنكم ستهزمون لأنكم تريدون وقف عجلة التاريخ، وإننا سننتصر لأننا نمثل المستقبل الزاهر”.
يؤكد مهري في شهادته التي نشرها في العدد13 من مجلة المصادر لسنة 2006، أن الشهيد كان له هاجس طيلة حياته النضالية وهو تكوين الأجيال التي تقوم بواجب المقاومة والنضال، وهو ما يجعله يختار ليكون أحد قادة المنظّمة الخاصة.
يقول: “كان الشهيد متشبّعا بروح المقاومة حريصا على توريث هذه المقاومة للأجيال التي تقوم بها، ومما نعرفه عنه ونتناظر بما يقوله، هو إيمانه المطلق في تكوين المناضلين بصفة خاصة”.
ويشير: “عرفت الأخ محمد العربي رحمه الله في أحد مخيمات الكشّافة الإسلامية الجزائرية.. وكان آخر لقاء معه بالقاهرة بداية 1956، وأعتقد أنه كان سفره الوحيد الذي قام به إلى مصر”.
ويضيف مهري: “عندما كنا نقول له يا حكيم، القرية أو الجهة الفلانية ينقصها المناضلون، فيقول لنا من هو المناضل؟ المناضل نصنعه وأشار بيديه إلى كيفية صنعه وكأنه يصنع تمثالا”.
وبحسبه، فإن المأخذ الأساسي للشهيد هو أنه كان يقتحم الصعاب والمعارك بدون أي تردّد وما تتميز به شخصيته هو إيمانه بالشعب الجزائري وبقدرته على خوض المعركة ضد الاستعمار.
في هذا الصدد يقول: “الثقة بالشعب الجزائري في عزّ المعركة المسلحة لا تصدر إلا عن مناضل يعرف هذا الشعب معرفة حقيقية وعميقة وهو ما يعطي لهذه الكلمة أبعادا كبيرة”.
ويؤكد مهري، أن الشهيد كان يعيش حياة بسيطة متواضعة مقداما وحريصا على تجسيد هذه المعاني في كل المسؤوليات التي تقلّدها.
يعتبر الشهيد القائد الوحيد من الداخل الذي إستطاع الخروج في السنوات الأولى للثورة إلى الخارج دون أن يلقى عليه القبض، فقد تردّد كثيرا على المغرب وإسبانيا وسافر إلى مصر مرتين، وإلتقى بجمال عبد الناصر شخصيا لتباحث مشكل السلاح وتناقش مع السلطان محمد الخامس حول خلفية استقلال المغرب وأثر ذلك على الثورة الجزائرية، فكان ممثل الثورة الحقيقي بالداخل في السنتين الأوليتين للثورة إلى غاية استشهاده في 3 مارس 1957.
وكتبت زهرة ظريف في مذكراتها عن العربي بن مهيدي: “سي محمد كان يملك نظرة حادة، عميقة، مركزة وحنونة. نظرته كانت تنبع منها السيطرة وتمنح السعة وتجربة الحياة العسكرية والنضال، والأمان الهادئ الذي يولد من الشعور بالإيمان”.
حسب شهادة عيسى كشيدة، فإن بن مهيدي رجل حكيم كان حذرا جدا في التواصل مع الناس، كان لا يصطدم بأحد بصورة مباشرة وإنما يعمل على الإقناع وجعلت منه تلك الموهبة في الإتصال رجلا تطلب وترغب في صحبته، بشوشا، متواضعا وقابلا للتكييف مع كل الظروف.ويضيف: “أعطى أحسن مثال في سلوكه كمناضل وكمسؤول، كان تقيا ومتسامحا، ولكنه كان يشترط من الآخرين كما من نفسه الإمتثال لحس الإنضباط، كان يرى أن الحزب يتمّ الحكم عليه عبر سلوك مناضليه، وهذا يتطلّب الإستقامة في الأعمال والاستقامة في الحكم”.
أحب الموسيقى الأندلسية وأغاني فضيلة الدزيرية
ويضيف كشيدة: “لكي يزيل التوتر الذي تتسبّب به المشاكل المرتبطة بحياة الحزب كان يجد نوعا من المتعة في الإستماع للموسيقى الأندلسية مفضلا فضيلة دزيزية، وكان من حين وآخر يأخذ مكانا له في قاعات السينما أو يؤدي شوطا من لعبة البيار إن سنحت الفرصة أو يضرب الكرة، في الصيف أحيانا كان ينزل معي إلى رأس المول بميناء الجزائر للسباحة”.
ويشير: “بن مهيدي لم يكن أكولا ولكنه يحبّ الأطباق التقليدية وكان لا يمتنع في قضم الحلويات العاصمية، في حين كانت القهوة تارة أو الشاي تارة أخرى تُرشف بشراهة خاصة عندما كان يحضر تقاريره الشهرية، وفي نهاية كل شهر يقوم بالحسابات لضبط ميزانيته، كان يتلقى 12000 فرنك كمرتب عضو دائم، وفي كل شهر كان يقتطع جزءا من هذا الراتب ليرسله لأخيه الأصغر محمد الطاهر أسمر اللون الذي كان يحبه كثيرا”.
وقد زاد ارتباط الشهيد بمناضلي القاعدة فكان يحثهم على مسألة الثقة أكثر فأكثر، ففي اجتماع ضمّ عددا كبيرا من المناضلين قال فيه: “لقد عشت طويلا بينكم، أنتم تعرفونني وأنتم ترونني ألبس بطريقة ما وإذا رأيتموني إذا ببذلة من حقكم أن تطالبونني بتوضيحات لتعرفوا بأي الوسائل تمكّنت من الحصول على هذا الهندام الجديد”.
ويضيف الشهيد حسب شهادة كشيدة:
«من الآن فصاعدا يجب ألا يكون المناضل محدود النظر كما في الماضي، بل يجب اعطاءه إمكانية للتعبير وحثه على التفكير حتى يتمكّن بدوره من إقناع غيره وأن يصير مسؤولا على كل تصرفاته”.
يقول كشيدة، أن بن مهيدي عمل على إشراك عبان رمضان في الثورة فور خروجه من السجن، دون إقصاء شخص لديه ميول إصلاحية أو راديكالية أو ليبرالية سواء كان الشخص مسلما أم يهوديا أوروبيا أو جزائريا، غنيا أو فقيرا حضريا أو ريفيا المهم الإنصهار في بوتقة جبهة التحرير والكفاح من أجل الإستقلال.
يذكر كشيدة أن بن مهيدي حدّثه عن عبان وكيف التقاه سنة 1949 لما كان عبان مسؤولا سياسيا بمنطقة سطيف أصبحا صديقين حميميين وأن بن مهيدي كان يكن إحتراما لعبان ويلقبه بالألماني هانسن بسبب تسريحة شعره، كان يصفه بالرجل الشجاع الصريح ذو الشخصية القوية، كان هناك اتفاق في الآراء بين الرجلين حول كثير من المسائل وكان بن مهيدي يرى أن لعبان ثقافة سياسة جيدة.
كان العربي بن مهيدي رجلا وحدويا مغاربيا بامتياز، وذلك بدليل سعيه لإنشاء جيش تحرير المغرب العربي من أجل التحرير الكامل وطرد فرنسا، لذلك كانت مساعيه جد حثيثة في هذا الميدان، لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة بعد فشل المشروع وأخذ المغرب وتونس استقلالهما في مارس 1956، وهو ربما ما عجّل بدخوله إلى العاصمة وتفكيره في ضرورة إعتماد الجزائر على نفسها وتحريك المدن الراكضة عن العمل وتغيير استراتيجيا الحرب.
يقول المجاهد صدار السنوسي بمجلة أول نوفمبر العدد 82: “كانت للشهيد العربي بن مهيدي علاقات طيبة مع جيش التحرير المغربي وكثيرا ما كنا ندخل إلى المغرب قبل إستقلاله، فيعقد الأخ بن مهيدي اجتماعات مع جيش التحرير المغربي وباعتباره كان مكلّفا بتوزيع الأسلحة التي تأتي عن طريق المغرب فقد ينتقل بنفسه إلى المكان المسمى رأس الماء ليشرف بنفسه على عملية تفريغ الأسلحة من البواخر ونقلها إلى التراب الجزائري”.
كان بن مهيدي ذا بعد نظر فيما يخص قضية الصحة وضرورة ربط علاقات مع أطباء وممرضين لخدمة المنظومة الصحية للثورة، ولقد بقي في إتصال دائم مع الدكتور نقاش وأجرى عدة عمليات للجرحى والمصابين، وأشرف على دورات تكوينية لفائدة الممرضين والممرضات الذين سيشكلون دعما حقيقيا للثورة في المنطقة الخامسة. حيث كان نقاش يقدّم دورات تدريبية في أيام العطلة الأسبوعية والأعياد والمناسبات في قبو بيته بوهران منذ صيف 1954.
 أما في تلمسان فربط بن مهيدي علاقاته مع الحكيم بن زرجب بن عودة عن طريق نوابه هناك أبرزهم هو بودغن بن علي العقيد لطفي، فقد كان بن زرجب يقوم بمداواة الجرحى والمعطوبين ويقوم بالعمليات الجراحية في جبال تلمسان وغيرها، كما يستقبل ببيته المرضى والمسبلين وأشرف هو الآخر على دورات تدريبية في مجال التمريض.
تأثر بن مهيدي باغتيال بن زرجب في 17 جانفي 1956، لأنه كان بالقاهرة في تلك الفترة يتباحث قضية تزويد الثورة بالسلاح وقد فجع بالصدمة عندما عاد إلى أرض الوطن.
العربي بن مهيدي كان شخصا محبوبا وعادلا وفي فترته لم تعرف المنطقة الخامسة اغتيالات أو تصفيات جسدية بالرغم من الخلافات ففي قرية الطرارس المصالية في جبالة المنطقة الثانية والتي إستطاع بن مهيدي أن يتوسّط بينها وبين كريم بلقاسم من أجلها ضمها لجبهة التحرير الوطني.
إستطاع أن يحرّك الثورة مجددا في المنطقة الخامسة ابتداء من 1و2 أكتوبر 1955 بعدما خمدت نار الثورة فيها بعد التفجيرات الأولى نظرا لشساعة مساحتها وتسليحها السيئ، بحيث اعتبرتها فرنسا منطقة هادئة.
رجل وهب شبابه وحياته لخدمة الثورة، كان مؤمنا تقيا يروي الحاج بن علا أنه بينما كان ذات يوم في امسيردة التحاته بتلمسان يوزع حبوب السم على الراغبين في أخذها وذلك تحسبا لطارئ إلقاء القبض على أحد المجاهدين فيبلع السم قبل أن يعذب ويكشف أسرار الثورة فلما عرض الحبوب على بن مهيدي رفض الشهيد.
وقال: “أنا لا أقتل نفسي وأفضل أن أترك الموت للقضاء والقدر، فإذا وقعت بين يدي العدو قاومت جهدي، وإذا لم أحتمل التعذيب بُحت بالشيء المعروف الذي لا يعرض رفاقي للخطر”. وهذه الشهادة تنفي ما روجت له الدعاية الفرنسية الكاذبة يوم اغتيل بن مهيدي على أنه قد انتحر بغية التستر على جريمته.
يقول أحد زملائه القريبين المجاهد بعوش محمد: “كان أستاذا معلما فهو ذو روح قوية في التنظيم وحسن المعاملة، رجل دوخ وأرهق الإستعمار الفرنسي بنضاله وجهاده، كان يحسن القراءة والكتابة باللغتين العربية والفرنسية متعلم للقرآن الكريم، كثير المطالعة مثقف دارس لتجارب الشعوب وثوراتها، عاش مناضلا وفيا لوطنه لا يعرفه جيدا إلا من رافقه وصاحبه في النضال”.
لطيف المعشر بادئ التواضع
يصفه شيخه ومعلمه علي مرحوم بقوله:
«كان لطيف المعشر بادي التواضع، رحيم القلب يألم لمنظر البؤس في أي شخص ويأنف من الظلم خاصة إذا نزل بضعاف الناس الذين لا يملكون حولا ولا طولا وكان قوي الإيمان، متين العقيدة في الدين، لا يميل إلى أي نوع من أنواع اللهو واللعب التي تتنافى والآداب الإسلامية لا يدخن ولا يتناول مشروبا كحوليا..”.
ويضيف: “كان ذا لون أشقر مع بياض مربوع القامة سليم البنية لم يتزوج قط، ولقد كانت له خطيبة تنتظره فاختطفه منها يد القدر.. ولم يكن بدل مظهره على مخبره ولا ظاهره على شخصيته وحوارك معه يريك منه شابا قويا مستنير العقل عميق التفكير مؤمنا بالعدالة الإنسانية وبانتصار حق الشعوب المناضلة في سبيل حريتها واستقلالها..”.
روي عنه المجاهد صدار سنوسي قائلا:«.. كثير التواضع إلى درجة أننا كنا نتساءل في بعض الأحيان إن كان مسؤولا علينا أم لا؟ والبعض منا لم يكن يعرف بأنه مسؤولنا إلا بعد أن يشاهده يشرف على العمل ويراقبه.. كان إنسانا متدينا وملتزما بالدين الإسلامي وحافظا على الفرائض الدينية كالصلاة وغيرها، وكان إنسانا بسيطا في جميع مظاهره يجلس جنوده ويتبادل معهم أطراف الحديث.. كان متفانيا في العمل كما كانت له نفس مرحة في العمل رغم الظروف الصعبة التي كنا نعيش فيها”.
ويضيف: “.. كان يأخذ دوره مع المجاهدين في أعمالهم، ففي الفترة التي كنا نستمع فيها على جندرمة العدو بواسطة جهاز الإرسال والإستقبال كان السي بن مهيدي يتصنّت لأخبار العدو مثل الجنود.. أما عن روحه المرحة فأذكر مرة أنه كان يتعين عليّ القيام بمهمة في المدينة وكنت لا أملك لباسا مدنيا، فقدم لي السي بن مهيدي لباسه وأعطيته لباسي العسكري ليرتديه وعندما عدت من المهمة وأعدت إليه لباسه قال لي بأنه يتعين عليّ أن أقوم بحملة تمشيط وتطهير واسعة النطاق، فاستغربت ولم أعرف قصده، فأردف بأنه يعني القضاء على القمل المنتشر في ملابسي”.
 وحتى لما غادر المنطقة الخامسة بإتجاه العاصمة، فإنه ظل محبوبا في كامل العمالة الوهرانية حتى أن هناك روايات تقول بأن بن مهيدي أراد الرجوع إلى الولاية الخامسة لما اشتد عليه الخناق في العاصمة، ففي المنطقة الخامسة وبالرغم من الرقابة الأمنية كان يعيش حرا طليقا منذ 1950 إلى غاية ماي 1956، أي حوالي ست سنوات يتنقل بحرية تامة بين الجزائر والحدود والمغرب وإسبانيا ومصر ويعقد الإجتماعات.
 أما في العاصمة فكان يظلّ محصورا متخفيا بين الشقق والعمارات خوفا من الشرطة ومصالح المخابرات مما يجعل عمله صعبا ونفسيته غير مرتاحة تماما.
أعتقل بن مهيدي في شقة بشارع دوبسيه يوم 23 فيفري 1957. وذكر سعد دحلب في مذكراته الصادرة عام 2008، بعنوان “المهمة منجزة من أجل إستقلال الجزائر” قائلا: “حين إقتحم المظليون الشقة وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع العربي بن مهيدي. كانوا متأكدين بأنهم قبضوا على بن خدة، الذي كانوا يبحثون عنه.
ويضيف: “ولقد علمنا بأن بن مهيدي الذي أدرك أنه هالك قام بتقديم نفسه، وقال أنه محمد العربي بن مهيدي، فكانت مفاجأة وفرحة للمظليين، اللذين فقدوا صوابهم، هذا ما أنقذ بن خدة”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024