كان الأكثر زهدا في طعامه وملبسه

الأمــير عبـد القـادر ظل متفتحـا على عصـره

سهام بوعموشة

 نويصر: اتهام الأمير بالإستسلام مزايدة

مرت منذ أيام الذكرى 189 لمبايعة الأمير عبد القادر تحت شجرة الدردار بسهل غريس بولاية معسكر بتاريخ 27 نوفمبر 1832.
وتظل هذه الشخصية، التي تحاول بعض الأطراف استهداف صورة رمز المقاومة الشعبية ورجل علم كرّس جزءا كبيرا من حياته لدراسة المؤلفين القدامى، مثل أفلاطون، فيثاغورت، أرسطو وكتب التاريخ والفلسفة والجغرافيا وكتب الدين واللغة والطب والأعشاب، كان يقضي وقت فراغه في الصيد الذي كان يمارسه في سرية مع بعض أصدقائه.


في هذا الصدد، يؤكد الدكتور مصطفى نويصر، أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر-02 لـ:«الشعب ويكاند”، أن من يدّعي أن الأمير عبد القادر إستسلم، هي مجرد مزايدات أطلقها أشخاص معيّنون في فترة من الفترات لمحاولة تشويه صورة هذه الشخصية الوطنية.
 ويضيف: “الأمير أدى رسالته كاملة في مقاومة الإحتلال الفرنسي طيلة 17 سنة، لكنه تعرض للخيانة ووجد نفسه وحده، فتوقفت مقاومته لتجنيب الجزائريين سياسة الأرض المحروقة التي طبقها الاحتلال الفرنسي”.
ويشير الباحث في التاريخ، إلى أنه قام بإعداد كتيب منذ أربعين سنة عبارة عن ببليوغرافيا يتناول كل ما ينتج عن الأمير على مدار قرن من الزمن وسيصبح مرجعا لكل باحث في الجانب الروحي وفي كل المجالات.
واجه الأمير عبد القادر منذ أن تقلد منصبه تحدّيين رئيسيين هما كبح توسع جيش العدو المحتل الذي كان قد فرض سيطرته على عديد المناطق الساحلية على مستوى التراب الوطني، أين كان يطلق حملاته الفتاكة على السكان المدنيين، وكذا إقامة دولة قادرة على السمو فوق سلطة القبائل في سبيل تنظيم أكبر للكفاح، بحسب ما يؤكده البروفيسور مصطفى خياطي في مؤلفه حول الأمير بعنوان: “الطب والأطباء في دولة الأمير عبد القادر”.
ويوضح أن الأمير وضع استراتيجية دفاع وكفاح طويلة ضد المحتل، بالإضافة إلى تكوين جيش نظامي بتقسيم الإقليم الجزائري إداريا إلى ثماني ولايات، كان الخليفة القائد السياسي والعسكري للولاية إلى جانب أركانه، وكان كل خليفة يتوفر على مجموعة من المسؤولين الذين كانوا يشكلون مجلسه التنفيذي.
وارتكزت مقاومته على جند غير نظاميين مشكلين من طرف القبائل، وبذلك كانت من أولى المهام الموكلة للأمير هي تكوين جيش نظامي والذي أطلق عليه تسمية العسكر المحمدي، وكان هذا الجيش مكونا من كتائب عادة ما كان عدد هذه الكتائب ثمانية، يقدر مجموعها بألف جندي من المشاة وكانت الخيالة مكونة من سرية أو سريتين.
وكان هذا الجيش يتوفر على ألبسة وكان متدرجا حسب الرتب المميزة. هذه القوات كانت مساعدة من طرف متطوعين، حيث يصل عدد الفاعلين إلى 70 ألف مقاتل، كما كانت القوات الملحقة مكلفة باللوجستيك، بالعلاج، بمراكز الحياة، بالاتصالات، بالأمن، بالحراسة وبالإعلام.
واعتمدت استراتيجية الأمير أساسا على صناعة حربية، من بناء للعديد من مسابك المدافع والمطاحن، مصانع البنادق وارتكزت على صناعة تموينية بالوسائل اللوجيستية من مطاحن الحبوب، مصانع الألحفة والأحذية العسكرية وورشات صناعة الألبسة الجاهزة، النسيج والسراجة. وسمح الاستيراد من جبل طارق ومن المغرب ومن المخيم الفرنسي، مثلما أقرته معاهدة التافنة.
ومنذ 1832 كان على رأس المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي للجزائر وقاد كفاحا إلى غاية 1847 مواجها الجيش الأكثر ضراوة في العالم في تلك الحقبة، لكن إثر خداعه من طرف حلفاء الأمس مثل ملك المغرب وبعض القبائل تفاوض الأمير من أجل الإيقاف النهائي للعدوان مقابل السماح له بالانتقال إلى عكة (سان جان دراكر) أو الإسكندرية، وبعد الموافقة الممنوحة من طرف إبن الملك، سلم الأمير حصانه للقائد لامورسيار وإلتحق بجمة- الغزوات للإبحار نحو الأوسط.
غير أن التعهد المقدم من طرف إبن ملك فرنسا اخترق واقتيد إلى طولون، حيث بدأ رحلة أسر طويلة وأليمة دامت خمسة أعوام وبعد “حصن لامالغ” بتولون، نقل إلى مدينة “نو” ثم إلى مدينة “لامبواز”، وأطلق نابليون سراح الأمير سنة 1852 وسمح له بالذهاب إلى تركيا، حيث أقام هناك في مدينة “بورصا” لمدة سنتين. وبعد الزلزال الذي ضرب المدينة، إنتقل إلى دمشق سنة 1855. هناك أنقذ أكثر من 12 ألف مسيحي من مجزرة مؤكدة.
على الصعيد السياسي، رفض الأمير طلب فرنسا الملح في أن يكون على رأس مملكة عربية تجمع الشام القديمة وهو المشروع الذي كان يرمي لإتمام القضاء على الإمبراطورية العثمانية.
وانكبّ الأمير على الأعمال الخيرية، على التعليم وعلى الصلاة، ظل رجلا متفتحا على عصره، سافر مرتين إلى فرنسا، مرة بمناسبة المعرض العالمي. ومرة أخرى إلى إنجلترا ليشارك في تدشين قناة السويس، أين كوّن صداقة قوية مع “فرديناند ليسابس”، وتبادل الكثير من الرسائل مع مشاهير العالم، مع مثقفين أو مجاهدين مسلمين، كالأمير شميل المحارب الشيشاني ومع مقربين أو حتى مع عامة الناس من الجزائريين الذين كانوا يطلبون دعمه.

خدمات للفقراء واليتامى
موازاة مع عمله على إقامة مؤسسات الدولة، عكف الأمير عبد القادر على وضع خدمات اجتماعية لصالح اليتامى، الفقراء والأشخاص المعوزين، جعل القصّر واليتامي تحت حمايته ووضع ممتلكاته تحت وصاية الوزارة العامة، بحسب ما جاء في كتاب دينزن بعنوان: “عبد القادر والعلاقات بين الفرنسيين وعرب شمال إفريقيا”.
وتذكر مراسلات النقيب دوماس، أن الأمير كان أول من أنشأ مدرسة للأشبال. لقد أخذ الكثير من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 سنة ومن أجل تقويتهم كان يغذيهم بالخبز والزيت.
وتظهر النزعة الإجتماعية للأمير بصفة دائمة أمام الفقراء المضطهدين والضعفاء. ففي معسكر، أول عاصمة للأمير قبل أن يتم تهديمها من طرف المحتل، شيّد منزلا خاصا بالنساء الحوامل وهناك كان بإمكانهن تلقي أو تناول كل الأطباق التي يرغبن بها.
واتفق كل المؤلفين على وصف لباس الأمير بالبساطة، لم يكن يحب البذخ في حياته اليومية، يكره كل مظاهر التباهي، مولعا بالتواضع. وكثيرا ما كان الفرنسيون يبعثون له أكوابا وطواقم أكل من الخزف، لكنه كان دائما يهديها إلى من يحبهم.
في المقابل، يبرز المؤلف محاربة الأمير عبد القادر للآفات الاجتماعية، حيث منع التبغ على جنوده النظاميين من أجل الحفاظ على صحتهم وإلغاء كل تبعية لهذه الممارسة وكذا التقليص من المصاريف غير المجدية لهؤلاء الرجال الذين كان أغلبهم فقراء. وقد أقر تعليمة لمنع التبغ مفادها: “ليس لأن التبغ بالتحديد محرّم في ديننا، ولكن كان جنودي فقراء، وبالتالي أردت حمايتهم من عادة تصبح أحيانا قوية لدرجة أننا رأينا أشخاصا يتركون عائلتهم في البؤس ويبيعون ملابسهم من أجل إرضاء رغباتهم”.
وتضيف التعليمة: “إلا أنه كان هناك من ظل يدخن لكن في الخفاء وهذا كان كافيا. أما بالنسبة لرجال الدين والطلبة وكل الذين كانت لهم علاقة بالحكومة، فكانوا قد ابتعدوا عنه كليا وهذا يبرهن إلى أي درجة كنت مطاعا”، وحارب أيضا اللعب والخمر.
أولى عناية لتعليم الأطفال والشباب
إهتم الأمير عبد القادر بتعليم الأطفال والشباب بقوله: “من واجبي، كسيد وكمسلم، أن أدعم وأبجل العلم والدين. لقد فتحت مدارسَ في المدن وعبر القبائل، أين كان الأطفال يتعلمون صلواتهم وحيث رسخت في أذهانهم تعاليم القرآن الأساسية والهامة، وهناك كان يتم تعليمهم بعناية القراءة والكتابة وعلم الحساب”.
ويضيف: “كنا نبعث إلى الزوايا مجانا أولئك الذين كانوا يرغبون في تنمية تربيتهم، وهناك كانوا يجدون طلبة قادرين على تثقيفهم في التاريخ وعلم اللاهوت. لقد خصصت للطلبة مرتبا منتظما والذي كان يختلف حسب علمهم وجدارتهم. وبالنظر للأولوية التي كان يمثلها تشجيع التعليم في نظري، فقد حدث لي أكثر من مرة وأن عفوت عن مجرم محكوم عليه بالإعدام لسبب واحد وهو أنه طالب”.
ويقول الأمير أيضا: “أن تكون متعلما على نحو لائق، فهذا يستوجب الكثير من الوقت في بلادنا، لدرجة أنه لم يكن لديّ الشجاعة أن أهدم في يوم واحد ثمرة سنوات عديدة لطالب علم مجتهد. عملت كل ما بوسعي لأحول دون إتلاف الكتب والمخطوطات في سبيل تسهيل الدراسة للطلبة، وكانت لدي العديد من الأسباب لأجتهد فيما يتعلق بهذه المسألة، فإصدار نسخة واحدة عندنا يستغرق أشهرا، لهذا أعطيت تعليمات صارمة في كل المدن والقبائل حتى تحظى المخطوطات بعناية فائقة، وسلطت أشد العقاب على كل من تسول له نفسه إتلافها أو تخريبها”.
ويضيف: “بإمكان المحتل... أن يقطع نخلة لأنها أزعجته، لكن كم من السنوات سينتظر من قام بزرعها حتى يستطيع تذوق ثمارها”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024