في تاريخ الثورة التحريرية وجه غير معروف كثيرا وهو النشاط السياسي المحاط بالكتمان الذي تولاه بكفاءة رجال لم يكونوا مؤهلين بأي حال من الأحوال للاضطلاع بالمهمة الدبلوماسية، لكنهم صاروا قدوة واستحقوا تقدير الجميع بما فيها الخصم اللدود ..
يقول المجاهد والسفير الأسبق صالح بن القبي، في شهادته عن النشاط الدبلوماسي للثورة، في كتابه عهد لا عهد مثله أو الرسالة التائهة، إن الدبلوماسية الجزائرية التي نشأت في خضم المعارك المسلحة ومازال صدى إنجازاتها عالقا بالأذهان، كانت في البداية نتيجة مبادرات قام بها أناس تخرج معظمهم من مدرسة النشاط السري، وصفوف جيش التحرير من أمثال بوضياف، بن بلة، أيت أحمد، لمين دباغين، مسعود بوقدوم، بوصوف، سعد دحلب، كريم بلقاسم، بولحروف، يايزيد، بن خدة، بن طبال، فروخي، بن يحي، لخضر الإبراهيمي، رضا مالك، شاندارلي، توفيق بوعتورة، سحنون وكثير غيرهم لا يقلون كفاءة ولا شهرة، وقدمت الدبلوماسية الجزائرية هي الأخرى ضريبة الدم وقوافل الشهداء سقطوا ضحية غدر مصالح الأعداء واعتداءاتهم المسلحة.
وفي نظر القبي تحرك العمل الدبلوماسي للجزائر المقاتلة بشكل شامل، وأخذ مظاهر ارتكز في البداية على الجانب السياسي، وما إن أتى بثماره الطيبة حتى تدعم ببرامج ثرية من التظاهرات الثقافية والفنية والرياضية ينشطها روائيون وممثلون ورسامون وموسيقيون ورياضيون من أصحاب الكفاءات العليا والالتزام السياسي الأكيد.
وحسب القبي تولى إسماع صوت الجزائر في العالم وقتها مفكرون وشعراء بالعربية والفرنسية والانجليزية من أمثال الشيخ البشير الإبراهيمي والورتلاني وشاذلي المكي، وأعضاء عائلة من الشيخ الحسين ومالك بن نبي والإخوان شيبان وعبد الحميد مهري، وكذلك مالك حداد، وكاتب ياسين والأشرف وشريف ساحلي.
ولم تحل جدران السجون ولا الأسلاك المكهربة المحيطة بالمعتقلات ولا غياهب الزنزانات دون وصول أناشيد الحرية والكرامة الصارخة بها صدور فحول الشعراء الجزائريين المكبلين بالقيود إلى أذان الورى ومنهم مفدي زكرياء والشيخ أحمد سحنون، والشبوكي والعيد أل خليفة وأحمد عروة وكثيرون غيرهم.
وكانت قصائدهم تجتاز الحدود وتقطع البحار والمحيطات لتبلغ الشعوب المحبة للحرية رسائل الجزائر الشامخة في شكل أناشيد كثيرا ما يتم تلحينها بعين المكان من طرف موسيقيين مساجين.
ويؤكد السفير الأسبق أن إنجازات الدبلوماسية الجزائرية تظل «فريدة من نوعها في تاريخ الشعوب المستعمرة» تكفلها مجاهدون ومناضلون قضوا جل حياتهم في ممارسة النشاط السري فكادوا يجهلون كل شيء عن التمثيل والمفاوضة، وكانوا يلقون في البداية أكبر العنت في ترددهم أثناء تأدية مهامهم على قاعات الاستقبال وحضورهم الاحتفالات واعتمادهم في الأكل على الشوكة والسكين، ومنهم من صار يستعين بالطلبة الذين تفرغوا للنشاط الثوري بعد إضراب 19 ماي 1956 عن الدراسة ومعلوم أن أول وزارة للخارجية أقامتها الجزائر المستقلة، قد تولى شؤونها المرحوم محمد خميستي وهو من قدماء الطلبة وأسند تسيير مديرياتها لزملاء سابقين له في الدراسة والاتحادات الطلابية.
ومن ضحايا الواجب المقدس في النشاط الدبلوماسي المحامي الشاب آيت لحسن، قتلته يد الغدر بألمانيا، والمناضل فروخي إثر انفجار الطائرة المقلة له، وهي وسيلة أودت بأرواح كل من بن يحيي ومساعديه أثناء مهمة يقومون بها لوضع حد لحرب فتاكة كانت قائمة بين الشعبيين الشقيقين العراقي والإيراني.
ويعود الفضل لهؤلاء السياسيين الذين باشروا عملهم انطلاقا من العدم في توحيد كلمة العرب والمسلمين، حول القضية الجزائرية التي صارت قضية مقدسة في أعين الجميع، نتيجة عملهم الدؤوب وتمثل ثاني انجاز لهم وهولا يقل شأنا عن سابقة في القضاء النهائي على أسطورة الجزائر الفرنسية فقد أحسنوا استغلال الكفاح البطولي الذي يخوضه شعب برمته على ساحة المواجهة وتضحياته الجسام لإرغام الخصم حول طاولة المفاوضات على قبول شرعية مطالب الأمة الجزائرية وتطلعاتها إلى السيادة الوطنية وسلامة ترابها.