معركة بوقنطاس..35 مجاهدا في مواجهة 300 عسكري
الثورة التحريرية الجزائرية المجيدة.. ثورة كُتب تاريخها بأحرف من ذهب، وظل يتباهى بها كل مواطن ينتمي إلى هذه الأرض التي انتفضت صارخة في وجه دبابات العدو في الفاتح نوفمبر 1954، فبعد معارك ضارية ومواجهات شديدة خرج منها المستعمِر منهزما وصاحب الأرض منتصرا، فأشرقت شمس الحرية فوق أرض الجزائر بعد أن ارتوت بدماء طاهرة، كانت كل قطرة منها وصمة عار تُطبع على جبين المحتل، وعز وشرف تُكتب لصالح الجزائر.
ثورة نوفمبر العظيمة تستحق إلى الأبد أن يقف لها الشعب الجزائري وقفة احترام صادقة، أن يذكرها ويعتز ويحتفل بها ليس في الفاتح من نوفمبر وفقط، وإنما على مدار السنة، إذ أن عظمتها والتضحيات التي جسدها أبناء الوطن وما منحته من شهداء وأرامل وأيتام على مدار سبع سنوات ونصف تستحق منا أن نذكرها في كل زمان ومكان، أن يتلقاها جيل بعد جيل، وتكتب وتدون سنة بعد الأخرى ليبقى هذا التاريخ في الذاكرة الإنسانية، وتبقى ثورة الجزائر ثورة خالدة، شامخة، مجيدة، ثورة عظيمة كعظمة شعبها وشموخه..
عنابة من بين المدن التي شهدت انتفاضات عارمة، وأنجبت نخب مفجري الثورة التحريرية، كما قدمت العديد من الشهداء الذين كانوا ضمن الصفوف الأولى لتحرير الجزائر من المستعمر الغاشم، على غرار الإخوة كايلة، كعبار عذرة، بلعيد بلقاسم، بورقعة محمد، ريزي عمر، طاهري حدة، بوزراد حسين، لعور محمد، بن مرزوقة كريم وآخرون..
فبالرغم مما كتب عن الثورات الوطنية، إلا أن هناك العديد من الثورات التي لم يسلط عليها الضوء، وبقيت أحداثها مجهولة قادها كبار الزعماء بجوهرة الشرق بونة، وعلى رأسهم الشيخ الحسنوي، زغدود، أحمد بن شعيب، وابن العربي..
تعتبر معركة «بوقنطاس» واحدة من أقوى المعارك التي شهدتها ولاية عنابة، وتعود التسمية نسبة لجبل بوقنطاس الذي شهد أحداثها الدامية التي وقعت ذات 27 جانفي 1957، حيث كان خلالها 35 مجاهدا بالمرصاد للعدو الغاشم، الذي فاجأهم بعد أن أفشي بمكان تواجدهم أحد الرجال الذي وقع أسيرا بين أيديهم، حيث طوق المكان ما يقارب 300 عسكري، وتمكن من القضاء على 17 شهيدا، يتقدمهم قائدهم «بلعيد بلقاسم» ابن عرش بني صالح الذي دوخ فرنسا بعملياته البطولية في قلب عنابة، في الوقت الذي لم يستسلم فيه بقية المجاهدين الذين واصلوا مجابهة العدو بكل بسالة وشجاعة، بالرغم من أنه كان يفوقهم عددا، وتمكنوا بدورهم من القضاء على 35 قتيلا في صفوف العدو.
ثوار يُحرقون أحياء بمعركة سيدي سالم
معركة سيدي سالم، التي لقبها المجاهدون بمعركة «القبائل» دارت أحداثها يوم 24 جوان 1959، حين كان مجموعة من المجاهدين عائدين من تونس بعد تلقيهم لتدريب عسكري بمنطقة الكاف، حيث أمرهم كريم بلقاسم بنقل مجموعة من الأسلحة والذخيرة الحربية للولاية الثالثة، حينها اضطروا لعبور خط موريس، أين لاقتهم بعدها العديد من الصعاب، ليعودوا أدراجهم من حيث أتوا تاركين أسلحتهم الثقيلة، وحملوا معهم فقط رشاشات خفيفة، ليختفوا ولمدة ثلاثة أيام بمزرعة أحد المعمرين بسيدي سالم «عين خروف» بالمدخل الشرقي لمدينة عنابة.
ليكتشف أمرهم فيما بعد، ويبلغ عنهم الجيش الفرنسي، الذي نصب لهم كمينا بواد سيبوس، ومحاصرتهم يوم 24 جوان 1959 من طرف 20 ألف جندي، غير أن المجاهدين لم يستسلموا لهذه المعركة التي استغرقت 15 ساعة، وكبدوا صفوف العدو الغاشم خسائر كبيرة، كما أسفرت عن إسقاط ثلاث طائرات، ليقابلهم المستعمر بالمدافع ، وقام بقصفهم بقنابل «النابالم»، والتي أحرقت أغلب الثوار وهم أحياء، في حين استشهد 29 مجاهدا وفقد البعض منهم وعيه بعد قصفهم بالغاز، ليتم اعتقال 18 مجاهدا ووضعهم في سجن «كوديات» بعنابة مصابين بطلقات نارية، حيث لم تسعفهم السلطات الفرنسية، وسلطت عليهم جميعا عقوبة الإعدام.
سيدي حرب.. المجاهد الثائر
معركة سيدي حرب نسبة للمجاهد «محمد بالحربي» أحد أبطال الثورة الجزائرية، والذي حكم عليه الاستعمار الغاشم بقطع رأسه من قبل المستعمر الفرنسي يوم 10 أوت 1836، بعد أن خاض مقاومة شرسة ضد العدو بمساعدة حشد من قبيلته ومن عروش جبل الإيدوغ، وقد كان القهر والظلم سبب التحاقه بأعالي جبل ايدوغ بعد أن اعتدى عليه أحد الجنود الفرنسيين، ليتمكن المجاهد محمد بالحربي من طرحه أرضا، لينهال عليه بعدها رفاق الضابط بالضرب ويفر بأعجوبة من بين أيديهم جريحا إلى أعالي جبل إيدوغ، ويقرر الثأر لنفسه، أين أصبح يطلق عليه اسم «سيدي حرب النغار» أي الثائر.
قام المقاوم الثائر بتكوين مجموعات من المجاهدين، كانت تعمل على شن هجمات متتالية على العساكر، وقطع رؤوس المحتلين ورميها في أحد أبواب ومداخل مدينة عنابة ليكون عبرة لغيره، وهو ما جعل المستعمر الفرنسي يكثف من هجوماته عليه، إلى أن جاء ذلك اليوم من 10 أوت 1836 حيث استشهد في ساحة الوغى، ليقوم العدو بقطع رأسه وأطرافه، ويتم دفنه من قبل الأهالي بمقبرة سيدي حرب.
ثورة قبائل وأعراش «الإيدوغ»
وتعد ثورة الشيخ زغدود من أكبر وأقوى المعارك التي شهدتها عنابة، وبالضبط بجبال الإيدوغ، والتي انطلقت شرارتها بعد محاولة الفرنسيين التوغل في جبال الإيدوغ من أجل فرض ضرائب مجحفة في حق الأهالي، حيث اقترب الشيخ «زغدود» من أحد الملازمين، ووضع يده على كتفه، ثم فجر دماغه، ليلحق به أهالي إيدوغ من الغابة وتمكنوا من قتل الضابط المرافق له واثنين من فرسانه.
وقد تمكن هذا المجاهد الذي ينحدر من عائلة اشتهرت بعلمائها من حشد أهاليه ضد العدو المستدمر، حيث نجح في قيادتهم وخوض العديد من المعارك التي أسقطت عددا كبيرا من الجنود الفرنسيين، وكادت أن تطيح ـ حسب بعض الدراسات ـ بأركان النظام الفرنسي، كون معاركه شملت المنطقة الواقعة بين عنابة وضواحيها، سكيكدة، الحروش، القل، الميلية، إلى حدود قسنطينة وڨالمة وسوق أهراس، ليصبح كل الشمال القسنطيني تحت نفوذ «الشيخ زغدود».
وقد واصل نضاله لمدة قاربت 05 سنوات، ليتعاون مع الشيخ «الحسناوي» بنواحي «سوق أهراس»، بعد انضمام هذا الأخير إليه، وهو ما أزعج فرنسا التي جنّدت له كامل قوتها ومختلف الوسائل للقضاء عليه، ليتتبعوا أخباره وتحركاته، ويضيقوا الخناق عليه، إلى أن استشهد في ميدان الشرف، بعد أن وشى به خادمه، وقد فصلت يده اليسرى ورأسه عن جسده، وحملهما العقيد كشعار إلى معسكره «بفج موسى»، حيث كان كوعه معلقا بسيخ بندقية، ورأسه مغروزا في رأس الحرب، وقد أرسل إلى قسنطينة وبقي معلقا لمدة 03 أيام معروضا في ساحة السوق كتذكار للنصر، ودفن في منحدر بجبال «الإيدوغ»، بمكان غير بعيد عن «رأس الحديد»، ولا يزال ضريحه موجودا إلى يومنا هذا في نفس المكان الذي وقعت فيه الواقعة بـ»معمرة».