500 مليون سنتيم.. اشتراكات شهرية للعمال المهاجرين
أرض المهجر كانت المنبع والبوتقة التي انصهرت فيها الوطنية الجزائرية ففي 1926 أسّس مصالي الحاج نجم شمال إفريقيا بنانتير (ضواحي باريس) الذي كان يناضل من أجل استرجاع السيادة الوطنية، المهاجرين الجزائريين كانوا جد متعلقين بوطنهم انضموا في خلايا جبهة التحرير، وطنيتهم لا تقل عن وطنية أبناء جلدتهم فرغم تضييق السلطات الفرنسية عليهم إلا أنهم ساهموا في دعم الثورة وسقطوا شهداء في أرض العدو، خلال مظاهرات 17 أكتوبر 1961 التي تحولت إلى بركة دماء.
العمال الجزائريين في فرنسا وحدهم دون غيرهم من العمال الأجانب كانوا يناضلون على جبهتين، وهي الجبهة الاجتماعية والاقتصادية والجبهة السياسية، فكانوا دوما يعتبرون أنفسهم مثل أبناء وطنهم الأم الجزائر في البأساء والضراء فما تخلفوا أبدا عن واجبهم الوطني، بحسب ما يؤكده سعدي بزيان، كاتب وصحفي، في إحدى مقالاته حول «دور الطبقة العاملة الجزائرية في الهجرة في ثورة نوفمبر1954»، بما انه واحد من الذين عايشوا هذه الطبقة ميدانيا منذ أكثر من 30 سنة.
وأشار بزيان إلى أن ذكرى مجازر 17 أكتوبر 1961، لم تتناولها الكثير من الدراسات والإصدارات سوى كتاب علي هارون بعنوان «الولاية السابعة، حرب جبهة التحرير الوطني بفرنسا 1954-1962»، في المقابل أصدر المؤرخون الفرنسيون عشرات العناوين في هذا الموضوع من منظورهم الخاص وهناك كتاب للمؤرخ جان لوك اينودي.
وحسب الإحصائيات، هذه المجزرة راح ضحيتها حوالي 300 شهيد من عمالنا في باريس جلهم تم رميهم في نهر السين، والبعض الآخر تم التخلص منهم في مراكز التحقيق والبعض الآخر تم ترحيلهم إلى الجزائر جوا ليتم رميهم في البحر الأبيض المتوسط.
وساهم المهاجرون بدعم مالي من خلال اشتراكاتهم الشهرية بمبلغ يزيد عن 500 مليون سنتيم بـ (الفرنك)، ولم تتوقف اشتراكاتهم هذه طيلة حرب التحرير 1954-1962 وبواسطة هذه الأموال كانت تدفع مصاريف لمكاتب جبهة التحرير الإعلامية في الخارج.
واعترفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بأهمية مساهمة جاليتنا في الدعم المالي للثورة، وقد ظلت الطبقة العاملة الجزائرية في المهجر تساهم سنويا في خزينة الدولة بالعملة الصعبة ما قدره الخبراء في المالية بـ 100 مليار سنتيم، وهو الدخل الثاني بعد البترول إلى غاية منتصف السبعينات.
وتطرق الأستاذ محمد ياحي، باحث بالمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، في مقال بعنوان «النضال الوطني للمهاجرين الجزائريين بفرنسا»، لأسباب هجرة الجزائريين إلى فرنسا كالأحكام الجائرة التي طبقت على الجزائريين كقانون الأهالي وقانون كريميو وقانون التجنيد الإجباري، الفقر والحرمان ومصادرة الأراضي والممتلكات، الضرائب وغيرها من الأحكام.
وحسب الإحصائيات فإن عدد المهاجرين الجزائريين بين سنوات 1902 و1914 قدر بـ 10 آلاف مهاجر وتزايد العدد بأكثر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ففي 1905 كان عدد كبير من الجزائريين يعملون في مناجم الفحم بمرسيليا وفي 1912 قدر عددهم بنحو 5 آلاف عامل أغلبهم من منطقة القبائل يشتغلون في الصناعة بمدينة مرسيليا في الصابون والميناء، منهم 1500 كانوا يعملون في المصانع ومناجم الشمال، فيما عمل جزء آخر في ناحية باريس بمعامل التكرير وفي بناء متحف الميتروبوليتان.
وحافظت جبهة التحرير الوطني على نفس التنظيم الذي كان لدى حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وقسّمت فرنسا إلى خمسة نواحي، وهي المنطقة الباريسية غرب باريس والمنطقة الشمالية والشرق لونغواي، منطقة الوسط بليون، المنطقة الجنوبية شرق بمرسيليا، منطقة جنوب غرب غير منظمة بعد، ونحو 8 آلاف عنصر عام 1956 ليصل إلى 15 ألف مناضل عام 1957 وكانت فدرالية فرنسا تفرض على غير التجار ألف فرنك و3 آلاف فرنك على التجار، بحسب ما أوضحه الأستاذ ياحي.
وأبرز ياحي الباحث الجامعي المجهود الاقتصادي للعمال المهاجرين في أرض الغربة، قد ساهم بشكل واضح في دعم المجهود الوطني فلقد بدأ النضال الوطني للمهاجرين الجزائريين بفرنسا في العشرينات بحركة الشبان الجزائريين، مرورا بنجم شمال إفريقيا وحزب الشعب الجزائري، انتهاء بفدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني وكلها تصب في خانة دعم النضال الوطني والتحرر للوطن، كما أن العمال الجزائريين وعلى اختلاف شرائحهم ومشاربهم كانوا يعملون على دعم المجهود الوطني في سبيل استعادة السيادة الوطنية.
وينبغي الإشارة إلى أن الدعم المادي واللوجيستيكي للثورة كان بفضل التنظيم المحكم والجيد لفيدرالية جبهة التحرير بفرنسا التي استطاعت تأطير كل المهاجرين الجزائريين، وهيكلتهم بنظامها المحكم والذي يعود إليها الفضل والدور الكبير في تمويل الثورة المسلحة طوال السنوات الثمانية للحرب وحتى بعد الاستقلال.