أوّل سفـير للجزائر بالمـملكة العــربية السعــودية سنة 1963
أحيت عاصمة الأوراس باتنة، ذكرى أحد أعلام الحركة الكـشفية الجزائرية، مؤخرا، وهو المجاهد الرمز والمربي الـمعلم والمرشد محمد يكن المنصوري الغسيري، الذي قضى عمره في سبيل تربية الأجيال، وإعلاء راية الحق والوطن، قبل أن تنطفئ شمعته التي طـالما أنـارت سمـاء الجزائر، ورفعت من شأنها في المحافل الدولية والتجمعات الدبلوماسية.
المجاهد البطل من بين أهم الرموز الثورية والتاريخية بالجزائر وعاصمة الأوراس خاصة، تشبّع بالروح الوطنية والقيم المستوحاة من الدين الحنيف ومن التقاليد الغرّاء للجزائر، قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى في 24 جويلية 1974،معلنا نهاية قصة بطل فقدت الجزائر به أحـد أبنائها البررة، الـذين لم يألوا جهدا ولم يدّخروا وسعا في العمل لمجدها ورفعة مكانها وإعلاء سمعتها، كما تروي عنه مختلف الكتب والمؤلفات بمتحف المجاهد وغيرها.
المجاهد هو محمد بن أحمـد يكن المنصـوري الغسيري من سلالة عرش بني منصور أحد فحول منطقة غسيرة التابعة لدائرة تكوت بولاية باتنة، ولد حوالي سنة 1915 وفي سن السابعة التحق بالكتّاب لتعلم المبادئ الأولى للقراءة، والكتابة وحفظ كتاب الله إلى سنة 1927، أين التحق بزاوية الشيـخ بن الصادق بأولاد ميمـون، هناك أنعم الله عليه بإتمام حفظ كتابه جـيدا سنة1931، لتـبدأ رحلة الفتى محمد بين عروس الزيبان بسكرة ومدينة العلم والإصلاح قسنطينة التي استـقر بها في حلقة شيخ العلماء والمصلحين عبد الحميد بن باديس الذي أطال الجلوس بين يديه واستلهم أصول العلم من منبعه فتعلم أسـس الدين والخطابة وكان من أمهر تلاميذه.
لينخرط بعدها الغسيري فـي أوائل الأربعينيات فـي الكشافة الإسلامية الجزائرية، أين شغل منصب مرشد لفـوج الإقبال بقسنطينة سنوات، وبعد استشهاد محمد بوراس إلتحق بالقيادة العامة، بالعاصمة، ليكون مرشدا عاما وعضوا فعالا في جناح شبيبة الكشافة الإسلامية الجزائرية، وقد ترك العديد من النصوص التي كتـبها لفائدة المنظمة منها التقرير الديني والأخلاقي للكشاف سنة 1943، وكذلك لائحة المرشدين المقدمة للقيادة العامة فـي مخيم تلمسان سنة 1944.
بعد مجازر الثامن ماي 1945 بأسبوع، تم اعتقاله، وأودع السجن المدني بقسنطينة في السادس عشر من ماي 1945، ثم نقل إلى سجن الحراش بالجزائر العاصمة ومنه إلى معتــقل جنان بـورزق بين بشار وعين الصفراء قبل أن ينقل إلى معتقل المشرية، أين تعرض لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل إلى غاية صدور العفو بحقه، لكـنه وضع رهن الإقامة الجبرية بـ فيـلا لارد، ولم يطلق سراحه إلا في السابع والعشرين مارس 1946.
بعد عودته إلى قسنطينة تم تعيـينه كنائب في لجنة التعليم العليا التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفي ذات السنة أوكلت إليه عدة مهام، منها مفتش عام لجميع مدارس الجمعية على المستوى الوطني، أين أدى هذه المهمة بكفاءة عالية واقتدار باعتراف الجميع، إلى غاية سنة 1949، وهي السنة التي عيّن فيها منـدوبا خاصا لزيارة الطلبة الجزائريين وتفقد أحوالهم في تونس ومصر.
في سنة 1951 قاد وفدا هاما من الكشافة الإسلامية إلى فرنسا، ومنها انتقل إلى النمسا حيث حضر المؤتمر العالمي للكشاف، وما إن عاد إلى الجزائر حتى كلف بمهمة زيارة المسؤولين السياسيين عن حزب الاستقلال المغربي فــي بلادهــم فمزج الشيـخ بين العمل الإداري والتعليمي والتربوي مع النضال والعمل السياسي.
وفي سنة 1953 ترأس وفــد الكشافة الإسلامية الجزائرية الـذي كـان متوجها إلى مصر لحـضور إحيـاء الذكرى الأولى لثورة جويلية 1952، استجابة لدعوة مــن الكشافة المصرية، وهناك التقى بالقائد عبد الكريم الخطابي وتعرف عليه، وبعدها سافر إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج رفقة الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الفضيل الورتلاني، وبعد انتهائه مـن مناسك الحج، زار سوريا ولبنان، حيث تعرف على رجال الفكر والثقافة وعلماء الدين.
عرّف بالقضية الجزائرية بالمشرق العربي
رجع إلى الوطن ليدّون رحلته في جريدة البصائر في سلسلة مقالات من 19 حلقة تحت عنوان: «عدت مـن الشرق» تميـزت هـذه المقالات بالكتابة الأصيلة، والموهبة المعبرة والروح الجمالية حيث جمع ملاحظاته وانطباعاته ومشاعره ومـواقفه حول أحوال أهالي المواطن العربية التي زارها بدءا من تونس إلى لبنان مرورا بليبيا، مصر، السعـودية، العراق، الأردن وسوريا.
تأثر كثـيرا بالصور الجميلة التي رآها هناك عـن المساجد والمؤسـسات الثـقافية، والإنسان المسلم المثقف المخـلص لوطـنه، كـما تألم للجوانب السلبية من دمار خلقي وجهل خلّفه الاستعمار وحروبه على الأراضي العربية المسلمة، وضاق ذرعا من مــظاهر التخـلف والخــمول، والانـحراف لـدى بعض شبان وشابات الــدول العـربية، ولم يفــوت أي سلبية وقف عليها إلا ونبّه إليها وقدم النصيحة لتجاوزها.
تعـددت رحلات الشيخ في دول المشرق العربي متنقلا بين حلــق العلم ومجـالسا لأكبر علماء عصره مدارسا إياهم تعاليم الديــن ومعـرفا بقضية الجزائر، رافعا رايتها عاليا إلى أن جاءه التـكليف من قيادة جبهة التحرير الوطني، سنة 1956، بالتنقل من القــاهرة إلى دمشــق، أيـن عيـن ممـثلا لها وعــمل بالشام مساعدا للأستاذ عبد الحميد مهري، فكان كله عزم وإصرار على شحــذ الهمــم وحشـد الدعـم والتـعريف بثـورة المليون شهيد.
أشــرف شخــصيا على الحصـص الإذاعية من دمـشق، والتي كانت تتـناول قـضية الجــزائر وحـربها ضد المستدمر الفرنسي، إلى أن أشـع فجر الاستقلال ربوع الوطن فـقــرر الغـسـيري العــودة لحـضن الـوطـن واستنـشاق عبيره وأنفــاسه، لكـنه لم يلبث أن عيّن من قبل حكومة الجزائر كأول سفـير لها بالمــملكة العــربية السعــودية سنة 1963 إلى غاية 1970، أيـن عيّن سفـيرا للجزائر بالكـويت وممـثلا لها باليمن الجنوبية والإمارات العربية المتحدة.
وفي صائفة عام 1974 عاد الشيخ الغسيري إلى وطنه الأم في عطلته السنوية ليقوم بزيارة منبته وقريته التي تشرفت بمقدمه، ولكـن الأقدار شاءت أن تكون زيارة موّدع حيث سبق عليه الأجل في الرابع والعــشرين جويلية ليسلم الروح إلى بارئها وليدفن بمقبرة العالية بالعاصمة، تاركا رصيدا زاخرا من العلم والمعرفة ونضالا كبيرا في سبيل الوطن والدين الحنيف.