الرّايــة الجزائريـــة رفرفت عاليــا في جومبــوري 1958 بباريـــس
ماتزال ذاكرة السيد عبد القادر مخبي من الرواد الأوائل للكشافة الاسلامية الجزائرية فوج القطب بالعاصمة خلال الأربعينيات يستحضر مسار الأحداث الحاسمة في مقاومة الاحتلال الفرنسي الغاشم بكل الوسائل المتاحة آنذاك، ومنها بالأخص غرس القيم الوطنية في روح الشباب.
هذه التّربية المتواصلة للرّجال كانت جدارا منيعا استعصى على الادارة الاستعمارية اقتحامه أو إيقاف ذلك السّيل الجارف من الحماس الفيّاض تجاه الوطن المحتل مصدره «النّشيد»، ملهم الجميع وموحّد الكلمة في التّضحية، ورغم مرور كل هذه العقود من الزّمن يحفظ عبد القادر مقاطع مؤثّرة عن ظهر قلب تدعو إلى عدم مهادنة العدو أو التّعامل معه، وهو الخط المتبع في تلك الفترة.
وهكذا لم يكن التحاق مخبي بالكشافة الاسلامية الجزائرية في سنة 1946 صنف «موقلي» للترف أو التسلية، وإنما إدراكا منه بأنّها مسؤولية لإعداد رجل الغد لخوض غمار ما هو صعب خلال المرحلة القادمة.
هذه القناعة العميقة تجذّرت مع ترقيته الى مستوى الجوّالة، وهنا ازداد هذا التوجه إيمانا قاطعا به في تحديد الهدف الدقيق للعمل الكشفي في مثل الظروف الخاصة، ألا وهي محاربة الاستعمار بأساليب ذكية جدا لا يتفطّن لها البوليس، وتجلّى ذلك في قوّة تأثير الأناشيد الوطنية والمضمون الثّوري للمسرحيات ورمزيتها المقاوماتية، والاقبال على الأعمال الخيرية يضاف إليها الخرجات الميدانية ذات الأنشطة التّضامنية مع الفئات المعوزّة.
هذا الوعي المتقدّم نابع من شعور الجزائريّين بالضغط اليومي والملاحقات المتواصلة والمطاردات الدائمة ناهيك عن انتشار البطالة، الفقر المدقع وعدم إتاحة فرص التّعليم.
وبالتوازي مع ذلك، هناك بدايات تنظيم الحركة الوطنية وسعيها لتأطير المناضلين في هذا الجو العام، كان للعمل الكشفي مفعوله الظاهر في الواقع، جسّدته فدرالية الكشافة الاسلامية الجزائرية كان مقرّهابـ «لي فوت» ما يعرف حاليا بـ «لابيشري» تضم كافة الأفواج الجزائرية تداول على تسييرها عمر لاغا، محفوظ قداش، آيت جعفر وماحي رشيد.
وبالرّغم من كل هذا الحصار المضروب على الجزائريّين، والتّضييق على تحرّكاتهم والمراقبة الصّارمة على أفواج الطليعة الكشفية منها القطب، الشهاب، الفلاح، الاجتهاد، الاصلاح، نور الشباب، الرجاء، الكمال، والأمير خالد.. فان ارادة التطلع الى غد أفضل انتصرت على كل تلك الاجراءات التسعفية والقمعية.
وفي الاطار، وأمام تنامي الوعي الوطني والحس الثوري لدى الشباب الجزائري، ولكسر هذه الارادة الصّلبة لجأت إدارة الاحتلال الى التشويش على هذه «المعالم» بوضع فوج موال لها، وهو ما يعرف بـ «بادن بري» لمحاولة التغطية على الأفواج الأخرى وطمسها، والأكثر من هذا التّأثير على معنويات أعضائها ودفعهم الى الالتحاق بهذا الفوج، إلا أن الشباب الجزائري رفض رفضا قاطعا هذا المسعى الاستعماري لاحتوائهم، وإدراجهم في مخطّطاته الخبيثة وردّا على كل هذه المناورات كان هؤلاء الشباب يلاحقون هذا الفوج بإلقاء الحجارة على مقره الكائن بشارع البحرية وراء ساحة الشهداء.
قصة الجومبوري
يعد الجومبوري لقاءً كشفيا عالميا يضم البلدان المنخرطة في هذا التنظيم، وقد حضر بوراس استعراضات منه بفرنسا، وهكذا قرّر أن ينقل هذه التّجربة الى الجزائر ونقصد هنا الحركة الكشفية وهذا خلال الأربعينيات.
وكان الجزائريون على أحر من الجمر لإظهار للعالم وللفرنسيّين بأنهم أحرار لا علاقة لهم بفرنسا، وهكذا ففي جومبوري 1958 رفعوا العلم الجزائري خفاقا وعاليا في عقر دار الاستعمار وبعاصمتهم باريس ممّا أحدث إرباكا كبيرا لدى الفرنسيّين الذين أصابتهم هيستيريا لا مثيل لها وهم يرون الرّاية الجزائرية ترفرف ما بين الأمم المشاركة، سارعوا في عين المكان لحجزه لكنّهم لم يعثروا عليه إذ اختفى فجأة، واستنادا إلى رواية عبد القادر، فإن هذا العمل النضالي الدقيق تم مع امرأة بلجيكية التي ساعدت الكشافة الجزائرية على تحدّي الفرنسيّين في بلدهم.
هذه الحادثة تركت الأثر البالغ في نفسية الاحتلال، الذي سارع إلى تشديد الحصار على الأفواج الكشفية الوطنية وملاحقتهم في أماكن نشاطاتهم، وفرض مضايقات على تحرّكاتهم، وفي خضم هذا الجو المشحون والمواجهة اليومية مع الاستعمار وأذنابه، ظهرت الارهاصات الأولية للثورة ببلوغ فترة الخمسينيات أوّجها والاعداد لهذا اليوم المشهود، وما إن أذن لتلك الليلة المباركة في أول نوفمبر بالشّروع في ضرب ركائز النظام الكولونيالي البغيض، قرّر حوالي 3000 قائد كشفي الالتحاق بالنضال، كما امتدّت قوافل من الكشفية عبر باقي الوطن لأداء واجبها كونها خزّانا بشريا للثورة عزّزها في كل مسيرتها.
ويعتبر مخبي النّشيد عنوان الانخراط في الكشافة، يصقل شخصية المنخرطين ويقوّي من ارتباطهم بالوطن عبر ما يحفظ من مقاطع منه، وما كان منتشرا في أوساط المناضلين هو «من جبالنا»، «كشاف هيا طلقة المحيا»، وبيت «هوى وطني فوق كل هوى جرى في عروقي مجرى دمي» و»علمي علمي» وغيرها من الأناشيد المرتبطة بالانسان والأرض، لا إنفصام بين العنصرين مهما كان الأمر، والدليل على ذلك مطالبة أصناف الكشافة بحفظ المزيد من تلك الأناشيد تفتتح وتختتم بها الاجتماعات كتعبير عن الصلة الوثيقة بالوطن وأمل في غد أفضل.
ودعا عبد القادر القادة الكشفيّين الحاليّين إلى إعادة النظر في أساليب تسيير المنظمة في الوقت الراهن، بتكييف خطّها مع المبادئ الأساسية التي نشأت من أجلها، خاصة نشر القيم الوطنية حتى لا تنحرف عن مسارها ويهيمن عليها الشكل على حساب المضمون، ولا تكون عبارة عن ديكور في الاجتماعات وغيرها، كما أن على القيادة الكشفية أن تكون في مستوى الحدث وحاضرة أو بالأحرى فارضة لنفسها من خلال نشاطاتها الميدانية المتوجّهة إلى المجتمع لتحافظ على تلك العلاقة العضوية مع المحيط كامتداد له.