قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام لشرف زمانه.
وكونه هو الصوم الذي فرضه اللّه على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها.
وقد يضاعف الثواب بأسباب آخر منها شرف العامل عند اللّه وقربه منه، وكثرة تقواه كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم و أعطوا كفلين من الأجر.
وأما على الرواية الثانية: فاستثناء الصيام من بين الأعمال يرجع إلى أن سائر الأعمال للعباد، والصيام اختصه اللّه تعالى لنفسه من بين أعمال عباده وأضافه إليه.
وأما على الرواية الثالثة فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه اللّه قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: "إذا كان يوم القيامة يحاسب اللّه عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل اللّه عزّ وجل ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة". خرجه البيهقي في شعب الإيمان وغيره.
وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام للّه عزّ وجل فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند اللّه عز وجل.
وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه روي: "أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات، ويقص بعضها من بعض فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة"، قاله سعيد بن جبير وغيره.
وفيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً فيحتمل أن يقال في الصوم. إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها.
وأما قوله: "فإنه لي" فإن اللّه خصّ الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم، وذكروا فيه وجوهاً كثيرة. ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان ـ أحدهما: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها للّه عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام؛ لأن الإحرام بالحج إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام.
وأما الصلاة، فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته، بل قد نهي أن يصلي ونفسه تشوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه. ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة.
وفي الموطأ: إنه صلى اللّه عليه وسلم كان بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو الحر. فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته للّه عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا اللّه كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان؛ فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه خوفاً من عقابه، ورغبة في ثوابه، فشكر اللّه تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله.
الوجه الثاني: إن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره؛ لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا اللّه، وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في العادة.
ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، وقيل: إنه ليس فيه رياء. كذا قاله الإمام أحمد وغيره.
انتهى ملخصا من كتاب: لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي.