بالرغم من التقدم العلمي المتسارع الذي مكّن البشرية من الوصول إلى الحلول المناسبة في العديد من المشكلات المعيشية والبيئية وتحديات الطبيعة، إلا أن المسلمين وعلى امتداد السنين الطويلة ودخولهم الألفية الثالثة لم يستطيعوا أن يتفقوا على معيار يوحد بدء صيامهم وفطرهم.
ومع تمتعهم بمنجزات العلم وانغماسهم في مظاهر الحضارة الحديثة وأخذهم بالوسائل العلمية في العديد من جوانب حياتهم ومجتمعاتهم إلا أنهم ــ حتى الآن ــ لم يستفيدوا من التطور العلمي المتحقق في ميادين علوم الفضاء والفلك للوصول إلى حل مناسب لمشكلة هلال رمضان الحائر كل عام.
يُقبل هلال الشهر الفضيل كل عام ويرحل وهو في حيرة من اختلافنا في استقباله (وأيضا) في توديعه، يا له من هلال كريم حار فينا وحيرناه، ومع ذلك فهو ضيف سمح لا يضيق بنا، يرحل ليأتينا من جديد.
التقاويم الفلكية، ومنها تقويم أم القرى، تشترط للقول بولادة الهلال وثبوت دخول الشهر الجديد، شرطين:
١ ــ حصول الاقتران بين الشمس والقمر، أي وقوع القمر بين الأرض والشمس تماما، إذ تضيء الشمس نصف القمر المواجه لها، في حين يكون النصف المواجه للأرض مظلما تماما فلا نراه.
٢ ــ أن يغيب القمر بعد غروب الشمس ولو بدقيقة.
نحن إذن أمام حالة، الولادة متيقنة، ولكن الرؤية متعذرة حتى بالمراصد، لقلة مكث الهلال في أفق الغروب، ومن المعروف انه لم ير هلال بالعين المجردة، يقل مكثه عن ٢٢ دقيقة. كما لم يشاهد هلال بالعين المجردة يقل عمره عن ١٥ ساعة و٢٤ دقيقة، ولا عن اقل من ١٢ ساعة و ٤٢ دقيقة بالمنظار، ولا عن اقل من ١٢ ساعة و٧ دقائق بالمرقب.
والذي أريد أن أصل إليه بعد هذا العرض، هو طرح التساؤلات الآتية:
ــ أولا: إذا أكد الحساب الفلكي ولادة الهلال، وتعذرت الرؤية إما لقصر مكثه في الأفق أو لوجود السحب أو لعدم صفاء الأفق للتلوث الجوي وإضاءة المدن (علما بأنه لا توجد دولة جوها صاف من دون أبخرة و أغبرة الماء والهباء أو غير ذلك)، إلا يكفي هذا التأكيد للقول بدخول الشهر الجديد شرعا؟
ــ ثانيا: أمر الرسول ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ للمسلمين برؤية الهلال، هل هو وسيلة لتحقيق هدف وغاية ــ هي تحقيق دخول الشهر ــ أم أن رؤية الهلال والتطلع إليه، أمر تعبدي لا بد منه؟
ــ ثالثا: ألا يشير الأمر برؤية الهلال بالعين المجردة الى انها الوسيلة المتاحة والممكنة للناس في زمنه صلى اللّه عليه وسلم وانه لو وجدت وسائل اخرى صالحة، مثل المتوافرة حاليا ـ لأمر بها الرسول ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ واعتبرها من ضمن الوسائل الشرعية المعتمدة؟
ــ رابعا: ألاّ يشير الأمر بإكمال عدة الشهر، حيث تعذّرت الرؤية لوجود السحب، إلى قبول الشريعة بأية وسيلة تحقق الهدف باعتبارها من شرع اللّه، ومن ثم يزول هذا الانفصام المزعج بين الرؤية الفلكية والرؤية الشرعية، وكأنّ الشريعة مناقضة للعلم؟
ــ خامسا: ألا يفيد قول الرسول ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ في الحديث المتفق عليه ''إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب'' تعليلا مناسبا لاتخاذ الرؤية البصرية وسيلة للتثبت من دخول الشهر كمرحلة مؤقتة، كان العرب عليها كما يقول الشيخ الغزالي ومن ثم انتهت وأصبحت الأمة تكتب وتحسب وبخاصة بعد نزول القرآن الكريم، فهل تبقى الأمية صفة ملازمة لها؟ وألا يفيد ذلك بأنه لا حرج على الأمة التي تجاوزت مرحلة الأمية أن تعتمد الحساب الفلكي وسيلة شرعية؟
وبعد: قد لا يكون اختلاف المسلمين المزمن حول هلال رمضان الحائر، أمرا بالغ القلق، بمقدار إظهارنا لهذا الدين العظيم ــ دين العلم والمدنية والتقدم ــ بمظهر الرافض لمنجزات العلم إما لظن مخالفتها الشريعة الخالدة او التشكيك في مصداقيتها.
وأخيرا، لا أجد خيرا من أقوال الشيخ الغزالي، رحمه اللّه، في هذا الموضوع: أليس عجيبا أن تكلف أمة ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره وقواه..لماذا يغوص غيرنا في الماء، ويسبح في الفضاء، ونحن ننظر مشدوهين؟ لماذا يملك الالحاد الكهرباء والذرة ولا نملك نحن إلا الهراوات؟ نهدد بها من يعترض أهواءنا؟! وما أزال انظر بضيق وأسف لقوم يروون نحن أمة أمية ليفهموا منه، أن الأمية صفة أمتنا إلى آخر الدهر، فهم يرفضون الحساب الفلكي وينكرون القواعد الرياضية التي قام عليها إرسال المركبات الفضائية وأمكن بها النزول على القمر، ثم ينظرون إليك بتبجح قائلين: أتنكر السنة؟ تراثنا الفكري.