لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة، كان الفساد قد أعمّ أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ومنهج جديد وحركة جديدة، وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها وهم اليهود والنصارى، أو المشركون في داخل الجزيرة العربيةوخارجها.
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة وإلاّ على يد خاتم الأنبياء والمرسلين، يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة، وهذه حقيقة تقرّرها سورة البينة كما تقرّر حقائق أخرى، قال تعالى: ﴾لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من اللّه يتلو صحفا مطهرة﴿.
والحقيقة الثانية أنّ أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالـة ولا عن غموض فيه، إنما اختلفوا من بعد ما جاء العلم و جاءتهم البينة، قال سبحانه: ﴾وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة﴿.
أن الدين في أصله واحد وقواعده بسيطة واضحة، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة، قال جلّ ذكره: ﴾وما أمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء و يقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴿.
لقد جاءت هذه الرسالة في أبانها وجاء هذا الرسول الكريم ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ في وقته، وجاءت هذه الصحف المطهرة وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثا لا تصلح الأرض إلا به، وترد التائهين إلى المحجة البيضاء. وأما حالة البشرية والديانات قبل البعثة المحمدية فيقول عنها المفكر الكبير السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي ــ رحمه الله ــ في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟): كان القرنين السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي، وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده
وقوة التمييز بين الخير و الشر، والحسن والقبيح. وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلاّ بعض القلوب، فضلا عن البيوت، فضلا عن البلاد.
وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ولا ذو بالأديـرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن، وظنا بأنفسهم أو رغبة إلى الدعة والسكون وفرار من تكاليف الحياة وجدها، أو فشلا في كفاح الدين والسياسة و الروح والمادة، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم و أكل أموال الناس بالباطل...أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين
والمتلاعبين ولعبة المجرمين والمنافقين حتى فقدت روحها
وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها وأصبحت مهود الحضارة والثقافـة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالـة ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها ونضب معين حياتها، لا تملك مشروعا صافيا من الدين السماوي ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري.
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية قبيل البعثة المحمدية المباركة، وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى، من ذلك قوله تعالى في سورة التوبة: ﴾وقالت اليهود عُزيز ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه، ذلك قولهم بأفواههم (٣٠)﴿، وفي سورة البقرة قوله عز وجل: ﴾وقالت اليهود ليست النصـارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب (١١٣)﴿، وقوله تعالى في سورة المائدة: ﴾وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء (٦٤)﴿، وفي نفس السورة قوله عز وجل: ﴾لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو لمسيح ابن مريم (٧٢)﴿، وقوله: ﴾لقد كفر الذين قالوا أنّ اللّه ثالث ثلاثة (٧٣)﴿ وقوله جل ذكره عن المشركين: ﴾قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين﴿ وغيرها كثير.
مفاهيــم إيمانيــة
الرسالـة المحمديــة تواجــه اختـــلاف الأديــان
شوهد:1627 مرة