جاء الإسلام وسطا بين غلوين ويسرا بين تشددين...غلو المادية الجسدانية وغلو الروحانية التي تعذب الأجساد... التشدد والتنطع قد عرف طريقه إلى الفقه والفكر الإسلامي..وإن بقيت الوسطية والتيسير هي السمة الغالبة على فكر المسلمين ومذاهبهم.
وفي أسباب تسلّل التشدد والتنطع إلى الفكر الإسلامي يقول الإمام عبد الرحمن الكواكبي (١٢٧٠ ــ ١٣٢٠ هـ ١٨٥٤ ــ ١٩٠٢م)
لقد وجد فينا علماء كان أحدهم يطلع في الكتاب أو السنة على أمر أو نهي، فيتلقاه على حسب فهمه، ثم يعدّي الحكم إلى أجزاء المأمور به أو المنهي عنه، أو إلى دواعيه، أو إلى ما يشاكله ولو من بعض الوجوه، وذلك رغبة منه في أن يلتمس لكل أمر حكما شرعيا، فتختلط الأمور في فكره، وتشبه عليه الأحكام، ولاسيما من تعارض الروايات، فيلتزم الأشد، ويأخذ بالأحوط، ويجعله شرعا.
ومنهم من توسّع فصار يحمل كل ما فعله أو قاله الرسول ـ عليه السلام على التشريع، والحق أن النبي ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ قال وفعل أشياء كثيرة على سبيل الاختصاص أو الحكاية أو العادة.
ومن العلماء من تورع فصار لا يرى لزوما لتحقيق معنى الآية، أو التثبت في الحديث إذا كان الأمر من فضائل الأعمال فيأخذ بالأحوط ويعمل به، فيقع في التشديد، ويظن الناس منه ذلك ورعا وتقوى ومزيد علم واعتناء بالدين، فيميلون إلى تقليده، ويرجحون فتواه على غيره.
وهكذا بالتمادي عظم التشديد في الدين حتى صار إصرا وأغلالا، فكأننا لم نقبل ما منّ اللّه به علينا من التخفيف فوضع عنا ما كان على غيرنا من ثقيل التكليف ﴾وما جعل عليكم في الدين من حرج﴿ (الحج الآية ٧٨) ﴾ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم﴿ (الأعراف الآية ١٥٧) وعلّمنا ــ سبحانه ــ كيف ندعوه بعد أن بين لنا أنّه (لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها) البقرة ٢٨٦: فنقول: ﴾ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا﴿ وأمرنا بقوله تعالى: ﴾لا تغلوا في دينكم﴿ (النساء الآية ١٧٠).
وقد ورد في الحديث: ''لن يشاد الدين أحد إلا غلبه'' (رواه البخاري) و''هلك المتنطعون'' (رواه مسلم) أي المتشددون في الدين.
ولقد ظن بعض الصحابة أن ترك السحور أفضل، بالنظر إلى حكمة تشريع الصيام ، فنهاهم النبي ــ عليه السلام ــ عن ظن الفضيلة في تركه، وقال عمر ــ رضي اللّه عنه ــ في حضور رسول اللّه ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ لمن أراد أن يصل النافلة بالفرض بهذا هلك من قبلهم، فقال النبي عليه السلام: ''أصاب اللّه بك يا ابن الخطاب'' (رواه أبو داود).
وأنكر النبي عليه السلام علي عبد اللّه بن عمرو بن العاص التزامه قيام الليل وصيام النهار واجتناب النساء وقال له: ''أشبت عن سنتي؟!''، فقال: بل سنتك أبغى، قال: ''فإنّي أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني...'' (رواه البخاري ومسلم).
وقد كان عثمان بن مظعون وأصحابه عزموا على مواصلة الصوم وقيام الليل والاختصاء، وكانوا حرموا الفطر على أنفسهم ظنا أنه قربة إلى ربهم فنهاهم اللّه عن ذلك لأنه غلو في الدين واعتداء عما شرع فأنزل ﴾يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين﴿ (المائدة الآية ٨٧)، أي أنه لا يحب من اعتدى حدوده وما رسمه من اقتصاد في أمور الدين.
وقد ورد في الحديث الصحيح قوله عليه السلام: ''والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا نهيتكم عنه'' (رواه البخاري ومسلم).
فإذا كان الشارع يأمرنا بالتزام ما وضع لنا من الحدود، فما معنى نظرنا الفضيلة في المزيد؟ وورد في حديث البخاري: ''إن أعظم المسلمين جرما من سأله عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته''، وبمقتضى هذا الحديث ما أحق بعض المحققين المتشددين بوصف المجرمين.
هكذا تحدث الكواكبي عليه رحمة اللّه عن التشدد والمتشددين والتنطع والمتنطعين في الدين.