إنّ من عظمة القرآن الكريم أنَّه كان تبيانًا لكل شيء، وكلمة شيء هنا عامَّة تشمل جميع الأحوال؛ سواء أكانت أحوال استقرار وأمن أم أحوال اضطراب وفتنة، فثمّة هدي قد تركه لنا القرآن المجيد في الفتن؛ حين تختلط الأمور وتلتبس المفاهيم وتضطرب الرؤية وترتفع الدماء إلى الرؤوس، يمكن أن نطلق عليه هدي التَّبيُّن؛ أي ألاّ يقول الإنسان كلمة أو يتحرك حركة إلا بعد تبيُّن وجه الحق من الباطل فيها، والمصدر والمآل لكل ما قد يقول أو يمارس، وإلاّ كان خائضًا مع الخائضين، وقد نُهينا عن الخوض؛ لأنَّ الخوض عبارة عن جري في مياه ضحلة مما يُثير الطين ويستخرج ما قد يكون قتله البر أو البحر وطمرته المياه الآسنة، فهنا لا بد من التبيُّن.
بوادر الفتنة
إنّ الإنسان لا يُعفى من القيام بواجب التبيُّن، ومنه أن يعرف أحوال أهل زمانه، والمؤثرات في ذلك الزمن على اختلافها، ويدرك العوامل الأساسيَّة والفرعيَّة في حركات الناس وتشكيل دوافعهم، فإذا رأى شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مُؤثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، واندفاع كل إنسان مع هواه؛ فليعلم أنًّ هؤلاء الناس قد أصبحوا مهيّئين لإثارة الفتنة بينهم، وإرباكهم، وتبديد طاقاتهم فيما لا يعود عليهم ولا على بلدانهم ولا على أجيالهم الطالعة بأيّ خير. وهنا يبدأ المتربصون ـ وفي مقدمتهم الشيطان ـ بتصيُّد الهنات والأخطاء، وتضخيمها، ويستثمر تلك الحالة العقليَّة والنفسيَّة أبشع استثمار، بحيث يؤدي إلى أفدح الأضرار، فتحدث الفتنة.
الفتنة الكبرى
إنّنا حين ننظر في الفتنة الكبرى التي تعرّضت أمتنا لها في عهد أفضل وأشرف وأعقل الناس وأكثرهم سعة أفق، ألا وهم أصحاب رسول الله ــ صلّى الله عليه وآله وسلَّم ــ الذين نترضّى عنهم، ونتبرك بهم وبأسمائهم، ونتتبع آثارهم؛ نستطيع أن نتبيَّن كيف تبدأ الفتن وتنتشر، فيمكن حينها أن يُطرح شعار كالشعار الذي وصفه عليّ ـ كرَّم الله وجهه ـ بأنَّه: «كلمة حق أُريد بها باطل»، فعليّ ـ كرَّم الله وجهه ـ ينبه الناس هنا إلى أنَّه ليس لأحد أن ينخدع بصدق الشعار ولا ببريق كلماته، بل يبحث عن الإرادة الكامنة في عقل ونفس طارح الشعار والمنادي به، فقد تكون كلمة حق أريد بها باطل، فالحق يمكن أن يُستثمر في تلك الأحوال الملتبسة لخدمة باطل، والباطل يمكن أن ينمو ويُعزَّز من مواقعه في ظل ظروف اضطربت فيها الرؤى، واختلطت فيها المفاهيم وامتزج فيها الباطل بالحق.
يقول الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ وهو يحاول أن ينبه الناس إلى خصائص البيئات التي يمكن أن تنتشر فيها الفتن: «إنَّما تبدأ الفتن بأهواء تُتَّبع، وأحكام تُبتَدع، يُخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال يقودون رجالًا على غير دين الله ـ أي يخلطون الحق بالباطل ـ فلو أنَّ الباطل خلص من مزج الحق لم يخف على المرتادين ـ أي الذين يرتادون هذه الأمور أو المعارك، فينكشف الباطل ولا يستطيع أحد مزجه بالحق، فيتبنَّاه أناس مخلصون لم يتبيَّنوا بالقدر الكافي ـ ولو أنَّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ـ أي قبله الناس وانتهت أزماتهم ـ ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيُمزجان ـ أي يمزجهما أولئك الرجال المشار إليهم في كلمة الإمام ـ وبذلك المزج يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى».
مَنْ يقعون في الفتن؟
في الكلمة الحكيمة السابقة، والتي قالها إنسان كان من أبرز ضحايا الفتن والدسائس والمؤامرات من أصحاب وآل رسول الله ــ صلّى الله عليه وآله وسلَّم ــ تتبيَّن لنا أمور عديدة، لعل أهمها أنَّ مَنْ يقعون في شراك تلك الفتن نوعان:
الأول: أناس يقعون فيها عن وعي وقصد وعزيمة قويَّة على إحداث الفتنة بين الناس، وهم وراء الستار، لا نعلمهم الله يعلمهم، وسيعذبهم مرتين؛ مرة بما عملوا وخططوا ودبَّروا، ومرة بما ارتكبوا وأجرموا وأوقعوا الفتنة بين الناس، ولقيادتهم لرجال طيبين لا ينقصهم الإخلاص ولا الصدق ولكن تنقصهم حالة التبيَّن.
الثاني: نوع لم يكن لهم تخطيط أو نيَّة وعزم على الولوج في هذه الأمور، لكنَّهم يجدون أنفسهم فجأة في وسطها يحترقون بنيرانها ويكونون ضحايا لأتونها دون أن يدروا كيف حدث ذلك ومَنْ الذي قادهم إليه، وهم عامَّة الناس وغالبيَّتهم وبسطاؤهم وطيِّبوهم، أو مَنْ يُطلق عليهم أو يُسمّون بالجماهير في عصرنا هذا، ومَنْ كان يُطلق عليهم في التاريخ العامَّة.
توابع الفتن
لا شك أنَّ هذه الأحداث يسقط فيها كثيرون، وبعد سقوطهم لا يسكت الشيطان، ولا يعتبر أنَّ المعركة قد انتهت بين الباطل الذي ينتصر له والحق الذي أرسى الله دعائمه، فماذا يفعل؟ يستثمر الأمر هو وأهل الباطل إلى آخره ويذهبون به إلى مداه، ففي عصر الصحابة والفتن التي مرّوا بها طُرح سؤال: مرتكب الكبيرة ـ ومنها القتل ـ هل يكون في الجنَّة أم في النَّار؟ وتكوّنت بذلك فرق إسلاميَّة ومذاهب كلاميَّة دخلت في علومنا ومعارفنا، وتغلغلت في التفاسير وفي كتب الحديث؛ ليقول بعضهم: إنَّ مرتكب الكبيرة في النَّار، ويستدل بأدلة قويَّة للانتصار إلى مقالته، ويقول ثان: هو في الجنَّة، ويقول ثالث: هو في منزلة بين منزلتين. والحق أنَّ أمور الآخرة كلها ليست جزءًا من همومنا، أو مما فُوّضنا للكلام فيه، أو للخوض في تفاصيله، فالله ـ تبارك وتعالى ـ ينادي يوم القيامة: لمن الملك اليوم، فلا يجبه أحد، فيجيب تعالى: لله الواحد القهار. فالآخرة لا حكم لأحد من البشر على شيء من شؤونها، فالله ـ تبارك وتعالى ـ وحده من يقرر من هو في الجنَّة ومن هو في النَّار لا شريك له، وبالتالي فإنَّ الناس في الدنيا إذا ماتوا أو قتلوا، فالذي يقرر مصيرهم إلى الجنَّة أو إلى النَّار هو الله وحده لا شريك له. كل ما يملكه الناس أنَّ مَنْ مات في سوح القتال ضد أعداء الله ـ جلَّ شأنه ـ في الدنيا، والصادِّين عن سبيله، والمانعين لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه. مَنْ قاتل هؤلاء فقتل فهو شهيد، لا يُصلى عليه؛ لأنَّه في غنى عن صلاة مَنْ هم أقل منه شأنًا، ولا يكفن إلا في ثيابه ولا يغطى وجهه، ويحشر يوم القيامة بثيابه ودمائه وجروحه تنزف كما كانت تنزف في الدينا؛ ليوفيه الله حسابه ويدخله جنَّته. فنحن حين نقرر أنَّ هذا شهيد وهذا ليس بشهيد فإنَّما يدور القرار حول هذه الأحكام، هل يُصلَّ عليه؟ وهل يُكفن؟ هل يُغطى وجهه؟ إلى آخر ذلك، وأمره أولًا وآخرًا إلى الله جلَّ شأنه، فتصدّي بعض المشايخ للإفتاء في قضايا من هذا النوع في أصله خاطئ لا ينبغي لهم الخوض فيه، ولا إثارة الاضطراب حوله، ولا نكبة أولياء المتوفى مرتين؛ مرة بفقده ومرة بنفي الشهادة عنه. فنحن نعرف ونؤمن بأنَّ الذين يسقطون في الوقائع الملتبسة أمرهم إلى الله ـ جلَّ شأنه ـ ويحشرون على نياتهم، ورب قتيلين متجاورين يذهب الله بأحدهما إلى الجنَّة ويذهب بالآخر إلى النار بحسب ما يعلمه الله ـ جلَّ شأنه ـ من صدق النوايا وإخلاص القصود وصلاح الهدف والغاية وما إلى ذلك، فالخوض في هذه الأمور أصبح مثار فتنة، بل وقودًا وحطبًا يُضاف إليها.