قبل أن تقرأ مقالي هذا أدعوك أخي القارئ أن تفتح مصحفك على الآيات من الآية ٢٤٣ إلى ٢٥١ من سورة البقرة، إقرأها وتأملها ستشعر وكأنما نزلت الآن مع أحداث غزة.
إنها قصة مقارنة بين شعبين، كلاهما مستضعف قد تعرض للقتل والتشريد وللإذلال والمهانة.
أما الأول فقد اختار السلامة والهروب وترك الديار فهانت عليه أرضه، ومن تهن أرضه هانت كرامته وهان وجوده، جبناء رغم أنهم ألوف، لا ينقصهم رجال ولكن تنقصهم رجولة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
الثاني أراد التحرير، ومن يريد التحرير يختار المواجهة، فقرر بذلك المواجهة ولم يتنازل عن أرضه وتاريخه وحقه وكرامته، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، لكن اختيار المواجهة والقتال رغم انه هو السبيل للتحرير إلا أنه ليس مفروشا بالورود ولا محفوفا بالنمارق ـ الوسائد ـ بل لابد فيه من بذل التضحيات ونزف الدماء، وهو بحاجة إلى صبر لايشوبه كلل وإرادة لا يتطرق إليها وهن وخور.
المتسلقون على سلم النضال كثر والمتغنون بالوطنية أكثر ولكن قليل من يصبر على عناء المشوار ويصدق عند اللقاء.
{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا}، نعم هناك فرق بين القول والعمل وفرق بين الادعاء والاثبات، المتسلقون على سلم النضال كثر والمتغنون بالوطنية أكثر وقليل من يصبر على عناء المشوار ويصدق عند اللقاء.
وهكذا انسحب وتولى أكثر القوم، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، ولكن لا بأس، لا بأس إن تولى أغلب الناس عن النضال والقتال فالنصر يحتاج الى إرادة قبل الزيادة، والاستعداد قبل العتاد، فصفحات الانتصار يسطرها أصحاب العزائم الصادقة والإرادة المخلصة حتى وإن كانوا قليل.
وعندما حان اللقاء وانكشفت الحقائق في الميدان، قام البعض بعقد المقارنات والتحدث في توازن القوى، حديث المريب والمتشكك واعتراهم ما يعتري النفوس من ضعف ووهن فقالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، أما الصفوة المؤمنة الصابرة الذين هم عماد النهوض وجذوة الانتصار فرددوا قاعدة المؤمنين الخالدة، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وفعلا تحقق النصر.
منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة نزلت هذه الآيات، فكانت وستظل إلى يوم الدين نبراسا للشعوب المستضعفة التي تبحث عن التحرر، والانتصار على البغي والظلم.
وها نحن اليوم نراها تتمثل في أهل غزة الصابرين المؤمنين، الذين لم يرضوا بخيار الهروب وترك الديار، بل اختاروا طريق المواجهة، طريق التحرر رغم شقوته وآلامه ودموعه ودمائه.
ولكن مازال هناك من يختار طريق الهروب ويمد يده للمحتل بهوان، ومازال هناك من يتولى إذا حان اللقاء ومازال هناك من المرجفين الذين يقولون لا طاقة لنا ببني إسرائيل وجنودهم!
يتحجّجون تارة بعدم تكافؤ القوى، فمتى كانت حروب التحرير على مدى التاريخ تتسم بتكافؤ القوى؟ وإلا لما سميت حروب تحرير؟!
يتحجج الانهزاميون بعدم تكافؤ القوى، فمتى كانت حروب التحرير على مدى التاريخ تتسم بتكافؤ القوى؟ وإلا لما سميت حروب تحرير؟!
ويتحججون تارة أخرى بكثرة القتلى والمصابين وكأن طريق التحرير يخلوا من الدماء، وكأن الحرية تُنال من خلال الجلوس على مقاعد المتفرجين!
وبالمقابل ما زالت هناك فئة مؤمنة صابرة لا يضرها من خذلها، تؤمن بأن النصر مع الصبر، شعارها {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}.
قصة طالوت..قواعد في التّحرير ودستور في النّضال
شوهد:987 مرة