حارس، ولد فقيراً لأبوين من موالي البصرة، لم يقف الفقر حاجزاً أمام طموحه. هاهو يشد رحاله إلى حاضرة الخلافة، يبحث عن عمل يسد رمقه، وينضم إلى حراس الخليفة، لتسوقه القدرة الإلهية فيما بعد إلى ما خلق له، فنفسه التي بين جنبيه كبيرة، ومهنة الحراسة لا تشبع طموحه الوثاب، لكن الأمر ليس بالأماني، وليس أمامه إلا الهمة؛ فهي الوحيدة القادرة على كسر ربقة الاستسلام.
في كنف الرشيد أضحى حارساً، ودار الخلافة يومئذ أقوى وأهم حكومة على وجه البسيطة، وبين الداخلين والخارجين إلى تلك الدار من أمراء وأشراف وعلماء، يلحظ صاحبنا الحارس أن العلماء هم السادة الحقيقيون، ومكانتهم لا ترام في نفس الخليفة، فقاضيه إمام مجتهد هو أبويوسف وعندما بلغه نبأ وفاة العالم المجاهد ابن المبارك، جلس للعزاء، كأنه وُتِرَ في أهله.
وفي إحدى المناسبات دعي أحد العلماء على مأدبة الرشيد، وكان ضريراً، وعندما كان يغسل يديه، قيل له:
أتدري من يصب الماء على يديك؟
قال: لا..
قالوا: أمير المؤمنين!
هذه هي أجواء دار الخلافة، فالعلماء هم علية القوم، ويتردد بين جنبات القصر قصة أمست حديث الجميع، مفادها: أن شجاراً نشب بين الأميرين الصغيرين: الأمين والمأمون، على تقديم الحذاء!!! لشيخهما الكسائي، ويُفض الخلاف عندما يقبل الطرفان بحل وسط، فكل أمير يحمل أحد النعلين، ويسري الخبر في القصر، ويهتز الخليفة طرباً من أدب أبنائه، واحترامهم للعلم وإجلالهم للعلماء، حتى إنه أرسل إلى الكسائي ليحضر مجلسه الذي يضم أقطاب الخلافة، فيسأل الرشيد الشيخ الكسائي:
من أعز الناس؟
فيجيب الشيخ: أمير المؤمنين.
فيقول الخليفة: لا، بل أعز الناس، الذي يتسابق وليا العهد لتقديم الحذاء له.
لعل صاحبنا الحارس أدرك أن العلم هو أقصر الطرق وآمنها للارتقاء، فأسقط من حسابه ما يحلم به أمثاله كأن يصبح رئيساً للحرس، وتتضح معالم الطريق أمامه ويحدد الهدف، فما عليه سوى أن يسلك طريقاً يلتمس فيه علماً، ويبدو الأمر هيناً لأول وهلة، فهو يعيش في حاضرة الخلافة التي تعجّ بالعلماء، كما أن العلم في متناول الجميع، وله أن يعب منه ما شاء.
لكن واقع الحارس مختلف، إذاً كيف السبيل؟ وما العمل؟
إن من يملك إرادة صلبة، قلما يحفل بالصعاب، أما العاجز فهو من تعوقه التحديات، وكأني به أخذ في تقليب الأمور. وبعد لأيٍ يجد ثمة فرصة ماثلة أمام عينيه، إن عليه أن يهتبلها، فالممكن فن قل من يتقنه، وهو إحدى سمات التميز، فها هو ذا شيخ العربية والقراءات يطرق دار الخلافة يومياً، فهو مؤدب أولاد الخليفة الأمين والمأمون.
إذاً لم لا يستفيد من الشيخ الكسائي، ويصمم على تلقي العلم بطريقة دخلت التاريخ؟ فقد كان يترصد وصول الشيخ يومياً، فإذا أقبل تلقاه، وأخذ بركابه، ثم أنزله وماشاه، وفي هذه الأثناء يسأله المسألة تلو الأخرى حتى يصل الكسائي إلى الستر، ثم يقفل صاحبنا راجعاً إلى مكانه، ويتكرر الأمر عندما يعود الشيخ ليغادر دار الخلافة.
وبقي الحارس على هذا المنوال حتى قوي وتمكن، وأضحى عالماً بالرواية، بصيراً بالأدب، متبحراً في علوم الشريعة، ويبدو لي أنه كان دمث الأخلاق، لطيف المعشر أيضاً، ويتحول من حارس نكرة إلى شخص يستلفت الأنظار.
ويرى الخليفة الرشيد إعفاء الشيخ الكسائي لا عن سوء أو ضعف فهو أحد القراء السبعة وإمام في اللغة بل شفقة ورحمة به، فقد بلغ من العمر عتياً، فوهن عظمه، وضعفت حركته.
ويفتح التاريخ سجلاته ليدون اسم الحارس، لا بل كنيته التي ناداه بها الرشيد بعدما اختاره مؤدباً لأولاده خلفاً للشيخ العظيم الكسائي:
«يا أحمر..إن أمير المؤمنين، قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيِّرْ يدك مبسوطة عليه، وطاعته لك واجبة، فكن حيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام».
وينبري المؤدب الشاب (خلف الأحمر) للمهمة الجديدة، ليخرج للأمة دفعة على رأسها اثنان، كل واحد منهما علم ومنارة، أما الأول فهو: الإمام أحمد بن حنبل، ومما نقل عنه أن شيخه الأحمر زاره في أحد الأيام فقام الإمام أحمد وقال له: «لا أقعد إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن تعلمنا منه».
والمنارة الثانية الخليفة المأمون، وتكفي لمحة تشير إلى ذلك تقول: إن الخليفة المأمون كان يعطي العلماء عما يكتبون أو يترجمون وزن عملهم ذهباً.
الأمل طريق السّكينة والسّعادة
مصدر الأمن والسكينة لدى المؤمن: ما يغمر جوانحه من أمل، ذلك الشعاع الذي يلوح للإنسان في دياجير الحياة فُيضيء له الظلمات، ويُنير له المعالم ويهديه السبيل. فالأمل قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجدّ إلى المداومة على جده، والزيادة فيه، كما تدفع المخفق إلى تكرار المحاولة حتى ينجح، وتحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه.
إنّ الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق أمله في الحصاد، والذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر أمله في الربح، والذي يبعث الطالب إلى الجد والمثابرة أمله في النجاح، والذي يحفز الجندي إلى الاستبسال أمله في النصر، والذي يهون على الشعب المستعبد تكاليف الجهاد أمله في التحرر، والذي يحبب إلى المريض الدواء المر أمله في العافية، والذي يدعو المؤمن أن يخالف هواه ويطيع ربه أمله في رضوانه وجنته.
الأمل إذن هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومخفف ويلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.
ضيق العيش وفسحة الأمل!
والأمل قبل ذلك كله شيء حلو المذاق، جميل المحيا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق. واستمع إلى الشاعر العاشق يقول:
أمانيُّ من ليلى عذاب كأنما
مُنى إن تكن حقًّا تكن أحسن المُنى
وضد الأمل اليأس..وهو انطفاء جذوة الأمل في الصدر، وانقطاع خيط الرجاء في القلب، فهو العقبة الكؤود والمعوق القاهر الذي يحطم في النفس بواعث العمل. ويُوهي في الجسد دواعي القوة.
قال ابن مسعود: «الهلاك في اثنتين: القنوط والعُجب...» والقنوط هو اليأس، والعجب هو الإعجاب بالنفس والغرور بما قدمته.
قال الإمام الغزالي: «إنما جمع بينهما: لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب، والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب؛ لأن ما يطلبه مستحيل في نظره. والمعجب يعتقد أنه قد سعى وأنه قد ظفر بمراده، فلا يسعى...».
ومصداق هذا الكلام في الحياة جلي واضح: إذا يئس التلميذ من النجاح...نفر من الكتاب والقلم، وضاق بالمدرسة والبيت، ولم يعد ينفعه درس خاص يتلقاه، أو نُصح يُسدى إليه، أو تهيئة المكان والجو المناسب لاستذكاره، أو...أو...إلا أن يعود الأمل إليه.
وإذا يئس المريض من الشفاء كره الدواء والطبيب، والعيادة والصيدلية، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه علاج، إلا أن يعود الأمل إليه.
وهكذا إذا تغلب اليأس على إنسان أي إنسان اسودت الدنيا في وجهه وأظلمت في عينيه، وأغلقت أمامه الأبواب، وتقطعت دونه الأسباب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت،
ذلك هو اليأس: سم بطيء لروح الإنسان، وإعصار مدمر لنشاطه، وتلك حال اليائسين أبد الدهر: لا إنتاج للحياة، ولا إحساس بمعنى الحياة.