حب الصلاة والمسجد حب راسخ ومتمكن في قلب كل مسلم، ففي الصلاة تحصل السكينة والطمأنينة بمناجاة الله والوقوف بين يديه، وتلاوة آيات الله والتدبر فيها، ويقع من الخشوع ما يذل به العبد ذلاً لا يكون لأحد سوى الله تعالى، ومن طهر قلبه من الشوائب وارتفع عن الجواذب الأرضية، تعلق بالمساجد وأحبها، واشتاق بعد كل فريضة إلى الفريضة الأخرى، فيحوز على الجائزة التي ينعم بها ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله، قال الرسول الكريم ــ صلى الله عليه وسلم ــ «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج حتى يعود إليه
ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
فتراه يأسف ويحزن إذا فاته حضور الصلاة في المسجد، فتنبعث لوعات نفسه دمعات تحكي مرارة الحرقة، مثل سعيد بن عبدالعزيز الذي كان إذا فاتته صلاة الجماعة يبكي، بل كان يبكي كذلك في الصلاة، متفكراً في عظم الموقف ومتدبراً الآيات التي يسمعها ويتلوها، فيسمو القلب ويخشع فينبعث الأثر إلى العين التي تجود بمائها، فعن إسحق بن إبراهيم قال: كنت أسمع وقع دموع سعيد بن عبدالعزيز على الحصير في الصلاة.
وكان أبو صالح السمان مؤذناً فأبطأ الإمام فأم المصلين، فكان لا يكاد يجيزها من البكاء والرقة.
والمسلم يستعظم شأن الصلاة لتعظيمه الله عز وجل، فيرهب للموقف العظيم الذي لا تفتقد هيبته مع تكراره، قال أبو سعيد، وهو جار لمنصور بن راذان: رأيت منصوراً توضأ يوماًً، فلما فرغ دمعت عيناه ثم جعل يبكي حتى ارتفع صوته، قلت: رحمك الله ما شأنك..؟ فقال: وأي شأن أعظم من شأني...؟ إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم فلعله أن يعرض عني، قال: فأبكاني والله بقوله.
وللصحابة أكبر شأن: عن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل». يعني: يبكي.
فكان الاتباع الخالص للنبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ القدوة صلى الله عليه وسلم في الأعمال والمشاعر واقتفاء الأثر في الجيل الرباني القرآني، قرن الأبرار والصالحين، قرن الصحابة رضوان الله عليهم.
عن عائشة زوج النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبوبكر رجلاًً بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.
وقال عبيد بن عمير: صلى بنا عمر بن الخطاب صلاة الفجر، فافتتح سورة يوسف، فقرأها، حتى إذا بلغ {ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} (يوسف)، بكى وانقطع فركع، وفي خبر آخر: لما انتهى إلى قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله (يوسف:86)، بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف.
وقفـات مع الصــّـلاة
كان ليونس بن عبدالله وقفات في محاسبته لنفسه والالتفات للخلل حين يقارن بين الأمر الكبير والأمر الحقير وتفاوت الاهتمام بينهما فيقول: ما لي تضيع لي الدجاجة فأجد لها، وتفوتني الصلاة فلا أجد لها...؟
ولعل هذا من الملاحظات التي ظهرت، والتي تحتاج إلى عزيمة وتصميم مع المرء مع نفسه وأن يحث من حوله على التناصح والاهتمام وإعطاء الأمور أولوياتها، والتمييز بين الخسائر، وما يشعر بذلك إلا ذوو الإحساس المرهف والأفئدة الحية التي تعرف لصلاة الجماعة قيمتها، فالأعشى قضى قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى.
وابن سماعة يقول: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي.
ويقول قاضي الشام سليمان بن حمزة المقدسي: لم أصل الفريضة منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط، مع أنه قارب التسعين.
وكان الحزن يغشى الرجال من سلفنا الصالح، عليهم رحمة الله، حين لا يدركون الصلاة مع إخوانهم، قال حاتم الأصم: فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبوإسحق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا.