سطوع البدر بفضائل ليلة القدر

ليلة السّلام الرّوحي والنّفسي على المؤمنين

هناك أشياء لا يحتملها العقل ولا نشعر بها إلا بالقلب، ولذلك ما أدرك أحد أن ليلة واحدة يمكن أن تكون أفضل ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر من العمل الصالح والعبادة إنها «ليلة العفو..ليلة القدر». فضّلها الله علي باقي أيام السنة، وشرفها بنزول القرآن فيها وشرّف القرآن بالنزول فيها..ليلة اختص الله بها أمة محمد بالفضل والثواب ليغفر لمن أعطاها حقها من العبادة ما تقدم من ذنبه وما تأخر..فيها تتنزل الملائكة إلي السماء الدنيا ليسلموا علي المؤمنين..والمفارقة هنا أننا بالطبع تخفق قلوبنا لمجرد تخيل أن الملائكة ينزلون خصيصاً للتسليم علينا ولكن الملائكة يعتبرون أن تكليف الله لهم بالنزول لأمة محمد ــ | ــ هو تشريف لهم قبل أن يكون لنا..فيحيطون بحلقات الذكر يتباعون الساجدين والمستغفرين ويتأثرون بدموع الخاشعين..فينقلون ما شاهدوه في هذه الليلة المباركة إلي باقي الملائكة..فيدعون ويستغفرون لنا..ولأن الله أعلم بنا منا وأعلم بأنفسنا من أنفسنا فلم يخبرنا تحديداً بليلة القدر حتي لا تقتصر طاعتنا له في هذه الليلة فقط وبالرغم من ذلك فرحمة بنا أمرنا رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ بأن نلتمسها في العشر الأواخر في شهر رمضان بالاعتكاف والدعاء.
 1 - معنى ليلة القدر
يرى بعض العلماء أن معنى القدر الذي أضيف لهذه الليلة هو للتعظيم، وهذا القدر جاء لما حدث فيها من نزول للقرآن الكريم، كما أن الملائكة تتنزل في هذه الليلة وأيضاً لما يكون في هذه الليلة من رحمات وغفران من الله تعالي علي العباد، والبعض يقول إن القدر جاء من أن الله يقدر في هذه الليلة أحكام السنة وما يقضي الله به علي عباده، وذلك لقوله تعالى {فيها يفرق كل أمر حكيم}.
 وتدل آيات القرآن على أن ليلة القدر هي إحدي ليالي شهر رمضان لأن الله بدأ فيها نزول القرآن، ومعلوم أن بداية نزوله كانت في رمضان فيتعين ذلك أن تكون ليلة القدر إحدى ليالي الشهر الكريم بالرغم من أن القرآن الكريم لم يتم فيه تحديد يوم ليلة القدر، ولعل الله تعالى جعلها غير معروفة لينشط الناس في عبادته والتقرب إليه كل ليالي الشهر، وقد وردت بعض الأحاديث عن ليلة القدر فقال الإمام أحمد بن حنبل سؤل أبو ذر كيف سألت الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن ليلة القدر؟ فقال: “أنا كنت أسال الناس عنها”، قل يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره ؟ فقال: “بل هي في رمضان”، قلت : تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلي يوم القيامة ؟ قال: “بل هي إلى يوم القيامة”، قلت في أي رمضان هي أي في أي أجزائه؟ قال: “التمسوها في العشر الأول والعشر الآخر”، ثم قلت في أي العشرين هي ؟ قال: “ابتغوها في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها”، فقلت يا رسول الله أقسمت عليك بحقي عليك أما أخبرتني في أي العشرين هي؟ فغضب النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وقال التمسوها في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها”.
ومهما اختلفت الأقوال فمن المؤكد أن ليلة القدر هي في شهر رمضان والقول الأقوى بأنها في العشر الأواخر منه..فالتمسوا فيها الدعاء.
2 - {إنّا أنزلناه في ليلة القدر}
إن الله فضّل بعض الأزمنة وبعض الأمكنة، فالأزمان ليس لها خصوصية في حد ذاتها ولكن مكانتها تأتي بما وهبها الله من أحداث أو فضل، فمثلاً الله اصطفى من الأيام الجمعة وبدون اختيار الله لهذا اليوم ليختصه بالرحمة والصلاة لكان كسائر الأيام، أما عن ليلة القدر فإن البعض يقول إن الله أعطى هذه الليلة شرف نزول القرآن فيها، والبعض الآخر يقول إن الله اختار نزول القرآن الكريم فيها لمكانة ليلة القدر، وهذا يعني أن عظمة هذه الليلة لم تبدأ بنزول القرآن فيها فكانت ليلة القدر صلة بين السماء وسيظل حتى بعد انتهاء نزول القران فضل هذه الليلة إلي يوم باقٍ إلي يوم القيامة ولهذا نلتمس الدعاء فيها، وقد نزل القرآن علي عدة مراحل وكل مرحلة كانت في ليلة القدر فقد نزل القرآن أولاً من عند الله إلي اللوح المحفوظ ومنه إلي سماء الدنيا ثم أنزلته الملائكة السفرة علي جبريل كل عام بعد ذلك ينزل به جبريل علي النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في المواقف المختلفة، والبعض يسأل لماذا خص الله نزول القرآن في الليل؟ ذلك لأن الليل وقت السكون والهدوء والنهار وقت الحركة والتشتت أما الليل فيكون الإنسان فيه خالياً بنفسه وبذلك يصبح أكثر تفكراً للأمور ولقد نزل القرآن ليوصل الخلق بالله تعالي ولذلك فإن انسب شيء ألا يأتي في صخب الحياة بل هدوئها.
3 - {وما أدراك ما ليلة القدر}
فالله هنا يخاطب النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وعندما تأتي كلمة أدراك توضح بأن الله أعلم رسوله شئياً لم يكن يعلمه وكل أمر جاء فيه «وما يدريك»، فلم يخبره به وهذا يدل علي أن فضل ليلة القدر لم يكن معروفاً لدي البشر لأن الله يخاطب الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ ويقول إنك لا تعرف ما ليلة القدر إلا بما أعلمناك به، وهذا يدل علي أن كلمة ليلة القدر تحمل معنى أكبر من الكلمة اللفظية، حيث يقدر في هذه الليلة أجل وعمل وخلق ورزق ما يكون في تلك السنة وعظمة ليلة القدر لا يمكن تحديدها بمفهوم العظمة عند البشر بل بحدود هذا الفضل، وهذه العظمة عند الله تعالى وهي بالطبع أكبر وأعلى.
4 - {خير من ألف شهر}
ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر..هذا ما يعادل الألف شهر وهذا ما كرمنا به الله من خير في ليلة واحدة.
أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، والأوقات تفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع، فلماذا ألف؟ إن الله سبحانه يخاطب الناس قدر عقولهم والعرب في هذا الوقت كان أقصى عدد وصلوا إليه هو الألف وكانوا يذكرون الألف في كثير من الأحيان علي طريق المبالغة، وهناك رواية بأن بعض بني إسرائيل كانوا يطيعون الله 80 عاماً ولهذا كانوا لا يسمون الرجل عابداً بمعني الكلمة إلا بعد أن يمر عليه 80 عاماً دون أن يعصي الله، ويقول مالك بن أنس: أرى رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ استقصر أعمار أمته وخاف ألا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم، فأعطاه ليلة القدر فكأنها إكراماً من الله للرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ ولأمته بحيث إذا أخلص العبد فيها عبادة وذكر الله تعالى غفر له ما تقدم وما تأخر له من ذنب.
5  {تنزّل الملائكة والرّوح فيها}
وهم من ملائكة يسمون «المدبرات أمراً» أي الملائكة الذين يختصون بالخلق فليس كل الملائكة مكلفين بأمور البشر..فمثلاً الملائكة «العالين» غير مكلفين بأي أمر لخلق الله ووظيفتهم الوحيدة هي عبادة الله حتي إن الله لم يأمرهم بالسجود لآدم عند خلقه، ولهذا قال لإبليس «استكبرت أم كنت من العالين » كدليل علي عدم تكليفهم بالسجود، اما الروح المذكورة في الآية فالمقصود بها جبريل عليه السلام ثم ينزل القرآن على النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في كل مناسبة على حدة من قبل جبريل، أما بإذن ربهم من كل أمر فالأمور هنا هي نظام الكون، وكل ملك له مهمة للخلق من رزق وحرب وموت أي الأمور بخيرها وشرها، وبالطبع فقول الشر هنا لا يأتي من عند الله، فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، فالإنسان قد يرى الحرب شراً ولكن الله يكتبها لينصر أهل الحق علي أهل الباطل، وربما يفقد أحد عمله ويعتبر هذا شراً، ولكن ربما كتب الله عليه هذا ليجنبه شراً سيقنع عليه من هذا العمل.
إذا تقديرات الله تعالى حتى لو على غير مراد البشر، فهي خير فليس كل ما تستطيبه النفس يكون سلاماً وخيراً لها، ولكن هو ما يعدل النفس عن تمردها وغرورها هو ميزان للسلام، والآية تدل علي كثرة الملائكة المنزلة في هذه الليلة فهم يتنزلون مع تنزيل البركة والرحمة، وعند تلاوة القرآن ويحيطون بحلقات الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له. ولهذا جاء قوله سبحانه في نهاية السورة {سلام هي حتى مطلع الفجر}، أي أن الملائكة ينزلون للتسليم علي المؤمنين وذلك يعتبر تشريفاً لهم بالتسليم على أمة محمد ــ صلى الله عليه وسلم
6 - تحديد ليلة القدر
عن عبادة بن الصامت قال خرج رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى (تخاصم) رجلان من المسلمين فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحي فلان وفلان فرُفِعت وعسي أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. وقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ هنا رفعت يعني أن علم تعينها وتحديدها هو الذي رفع وليست الليلة في حد ذاتها لأنه قال بعدها التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة وفي أحاديث أخرى تشير إلى العشر الأواخر من رمضان، وقوله عسى أن يكون خيراً لكم يعني عدم تحديدها، فإذا كانت غير معلومة اجتهد الناس في العبادة بخلاف ما إذا علموها فيكون الاجتهاد فيها فقط دون الشهر، ولذلك لا تعلموها لتعم العبادة جميع أيام الشهر، ويكون الاجتهاد في العشر الأواخر أكثر ولهذا كان رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، وليلة القدر متنقلة في لياليه، فيجوز أن تكون ليلة الحادي والعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين إلى غير ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر أي اجتهد في العبادة، وعن تحديد ليلة القدر روي البخاري عن ابن سعيد رضي الله عنه قال: اعتكفنا مع النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخاطبنا وقال: إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها أو نسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، إني رأيت أني أسجد في ماء وطين فمن كان قد اعتكف مع رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فليرجع..فرجعنا وما نري في السماء قزعة (أي قطعة من الغيم)، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد ونخل وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته.
ومن علامات ليلة القدر أنها ليلة سمحة لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس في صباحها ولا شعاع لها ويكون فيها القمر ساطعاً، وسيظل هذا الاختلاف على تحديد ليلة القدر، ولكن في النهاية هناك يقين بأنها في شهر رمضان المبارك، وعلى المسلم أن يجتهد في العبادة خصوصاً العشر الأواخر من الشهر وأنها باقية إلي يوم القيامة.
7 - فضل ليلة القدر
هي ليلة يعم فيها السلام الروحي والنفسي على المؤمنين، وقد اختص الله أمة محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقط بليلة القدر فكان الصحابة يخافون من قصر عمرهم وقلة عملهم فاستجاب الله لرسوله ولأمته من بعده بأن أعطى لهم ليلة العمل فيها يعادل عمل ألف شهر وفيها يغفر سبحانه للإنسان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فروي أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه قال: من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وهناك فضائل قد لا يراها الإنسان مثل نزول الملائكة التي تملأ الارض حتي يقال إن عددها يكون أكثر من الحصي يسلمون علي المؤمنين حتي إن رحمة الله علي المذنبين في هذه الليلة وحدها مثل رحمته عليهم في ألف شهر، فعن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه قال: إذا كانت ليلة القدر ونزلت الملائكة وهم سكان سدرة المنتهي وجبريل عليه السلام معهم ومعهم أربعة ألوية فينصب لواء منها علي قبري ولواء منها علي طور سيناء ولواء علي ظهر المسجد الحرام ولواء منها علي ظهر بيت المقدس، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليه يقول يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام فإذا طلع الفجر فأول من صعد جبريل عليه السلام حتي يكون علي الوجه الأعلي بين السماء والأرض فيبسط جناحه فتصبح الشمس لا شعاع لها حتي يدعو ملكاً ملكاً فيصعدون فيجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام فتصبح الشمس بيضاء لا شعاع فيها فيقول جبريل ومن معه من الملائكة بين السماء والأرض يومهم ذلك في الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، فإذا أمسكوا دخلوا إلي السماء الدنيا فتقول لهم ملائكة السماء مرحباً بأشرافنا وساداتنا من أين أقبلتم فيقولون أقبلنا من عند أمة محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ فيقول ما صنع الله سبحانه وتعالي في حوائجهم فيقولون غفر لصالح أمة محمد وشفع صالحهم في طالحهم فيصيحون إلي الله تعالي بالتسبيح والتحميد والتقديس ثم يسألون عن رجل رجل وامرأة امرأة فيقولون ما فعل فلان وما فعلت فلانة فيقولون وجدنا فلاناً متعبداً ووجدنا فلاناً يذكر الله ووجدنا فلاناً راكعاً وفلاناً ساجداً وفلاناً باكياً فيدعون ويستغفرون لهم.
8 -الدعاء في ليلة القدر
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال: “قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني”، فالدعاء في ليلة القدر أقرب إلي الاستجابة من الله تعالي لما في الليلة من رحمة وبركة، ولهذا فعلى العبد عندما يدعو ربه ألا يتكلف في الدعاء أي يدعو بما في قلبه بشكل بسيط يدل على صدقه والدعاء بما أحب لنفسه وأحبابه من الأحياء والأموات والإكثار من الاستغفار وتوحيد الله عز وجل، ويبتعد عن الأدعية التي تحتوي علي سجع أو التي لا يفهم معناها. فاللهم تقبّل دعاءنا في ليلة فضّلت أمة محمد بها على سائر العالمين.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024