كان عبد الرحمن بن عوف رجلا موسرا، وثريا من أثرياء المسلمين، ولكن هذا الثراء لم يطغه، فلم يتكبر على مخلوق، بل ظل هذا المال الوفير الكثير في يده لم يجد إلى قلبه سبيلا، فقد سلطه في وجوه الخير، وكان رضي الله عنه يطوف بالبيت الحرام ويقول: اللهم قني شح نفسي. وقد بكى حينما حضرته الوفاة وقال: أخشى أن أكون ممن عجّلت له طيباته في حياته الدنيا، وأخشى أن أحتبس عن أصحابي بكثرة مالي.
ومن هذه النظرة السليمة للمال، انطلق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يبذل الأموال الكثيرة بسخاء على الفقراء من قومه بني زهرة وغيرهم، ويجهّز المجاهدين في سبيل الله· وهذه أخي القارئ بعض الشواهد على بذله وإنفاقه وصدقته حتى تقتدي به إن كنت غنيا موسرا، أو تحثّ غيرك من الأغنياء الموسرين على ذلك، فإن الدال على الخير كفاعله، وله مثل أجر فاعله كما ثبت في الأحاديث النبوية·
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن قافلة لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قدمت من الشام تحمل من كل شيء، وكانت سبعمائة بعير، فجعلها رضي الله عنه جميعها في سبيل الله·
عن أم بكر بنت المسور قالت: إن عبد الرحمن بن عوف باع أرضا له من عثمان بن عفان رضي الله عنهما بأربعين ألف دينار، فقسمه على فقراء بنيي زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين، قال المسور، فأتين عائشة بنصيبها فقالت: من أرسل هذا؟ فقلت: عبد الرحمن بن عوف، قالت: أما إني سمعت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقول: لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون، سقى الله عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة· ذكر البخاري رحمه الله في تاريخه عن طريق الزهري قال: أوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لكل من شهد بدرا بأربعمائة دينار، فكانوا مائة رجل لكل رجل أربعمائة دينار ذهبي· وقد وصل أزواج النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بمال بيع بأربعين ألفا ·وأوصى رضي الله عنه بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف درهم، وكان كثير العتق للأرقاء، فقد أعتق في يوم واحد ثلاثين رقبة..إلى غيرها من مظاهر وصور الكرم والإنفاق في الخيرات والجود التي أنتجتها مدرسة النبوة التي تربى فيها ذلك الجيل الفريد، حيث أقام تلك النفوس السخية الكريمة على أساس من الثقة بالله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سورة سبأ 39).
وقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} (سورة البقرة: 272)، وقوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} (سورة البقرة 261)، وغيرها من آيات الذكر الحكيم التي جعلتهم في مقام القدوة والفضل والمدح والمثل الرائع والاستجابة الواعية للتوجيهات النبوية الداعية إلى تزكية نفوس وتطهير أموال الأغنياء بالجود والسخاء والكرم، والإنفاق في وجوه الخير والحق، وجعل المال وسيلة في يد وليس مقصدا في القلب.
وإلهًا يعبد من دون الله تعالى، كما هو الحال عند بعض الأغنياء والأثرياء الذين لم يتذوقوا طعم الإيمان بالإنفاق في سبيل الله، لجهلهم أو تقصيرهم أو عنادهم كل حسبه، وهم أحوج ما يكونون لمثل هذه النماذج وتلك الصور الرائعة، ولتأمّل وتدبّر والعيش مع توجيهات نبيهم محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ وهو يقول: ‘’اتقوا النار ولو بشق تمرة’’ (متفق عليه). ويقول: ‘’ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: ‘’اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا’’ (متفق عليه)، ويقول: ‘’قال الله تعالى: ‘’أنفق ينفق عليك’’ (متفق عليه)، ويقول: ‘’يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى’’ (مسلم)، وقال: ‘’إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء’’ (رواه الترمذي) فمتى يستيقظ البخلاء والممسكون وعبّاد الدنيا والمال لما دعاهم إليه رب العالمين، وأرشدهم إليه رسوله الأمين، وامتثله الغرّ الميامين من الصحب الكرام؟