الإنسان من غير قلب أشبه بالآلة الصماء، والحجر الصلد، فإن حقيقة الإنسان ليست في هذا الغلاف الطيني من لحم ودم وعظم، وإنما هي تلك اللطيفة الربانية، والجوهرة الروحية، التي بها يحس ويشعر وينفعل ويتأثر، ويتألم ويرحم، هي القلب الحي.
ومن أخص أوصاف المؤمن أنه يتميز بقلب حي مرهف ليِّن رحيم، يتجاوب به والأحداث والأشخاص، فيرق للضعيف، ويألم للحزين، ويحنو على المسكين، ويمد يده إلى الملهوف، وبهذا القلب الحي الرحيم ينفر من الإيذاء، وينبو عن الجريمة، ويصبح مصدر خير وبر وسلام لما حوله ومن حوله
رحمة المؤمن من رحمة الله تعالى
أن يتخلّق المؤمن إنسان ذو قلب رحيم، لأن مثله الأعلى بأخلاق الله تعالى، وأن يكون له حظ من أسمائه الحسنى.
ومن أوضح الأخلاق الإلهية الرحمة التي وسعت كل شيء، وشملت المؤمن والكافر، والبر والفاجر، واستوعبت الدنيا والآخرة. وقد قرَّب الرسول لأصحابه هذا المعنى ـ على طريقته في انتهاز الأحداث والمناسبات فرصاً لغرس المبادئ، والمعاني التي يريدها ـ حين قدموا عليه مرة بسبي، وإذا امرأة تسعى، قد تحلب ثديها، إذ وجدت صبياً في السبي، فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته؛ فقال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا ــ وهي تقدر على ألا تطرحه ــ قال: فالله أرحم بعباده من هذه بولدها» (رواه البخاري).
من أبرز أسماء الله الحسنى اسما الرحمن الرحيم، وهما أشهر الأسماء بعد لفظ الجلالة الله والمؤمن بالقرآن كلما تلا كتاب الله أو بدأ سورة منه، افتتحها بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» في مائة وثلاث عشرة سورة منه.
وحسبنا أن يردد هذين الاسمين في صلاته المكتوبة ما لا يقل عن أربع وثلاثين مرة في اليوم، فهو كلما أدى ركعة قرأ فاتحة الكتاب {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم} (الفاتحة: 1 - 3)، وهي سبع عشرة ركعة في الصلوات الخمس المفروضة على المسلم في يومه، فإذا أدى السنن زاد ضعف ذلك، فإذا رغب في النافلة، زاد ما شاء الله أن يزيد.
ولهذين الاسمين الكريمين «الرحمن الرحيم» إيحاء قوي في نفس المؤمن، فضلاً عما توجبه عليه عبوديته لله أن يكون له حظ من أسمائه تعالى.
وللإمام الغزالي كتاب سماه المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، يشرح فيه الاسم الإلهي ثم يعقب بما يمكن أن يكون حظ الإنسان من هذا الاسم، وبعد أن شرح معنى الاسمين الرحمن الرحيم، قال: وحظ العبد من اسم الرحم» أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة، لا بعين الإيذاء، وأن يرى كل معصية تجري في العالم كمعصية له في نفسه، فلا يألو جهداً في إزالتها بقدر وسعه، رحمة لذلك العاصي من أن يتعرض لسخط الله تعالى، أو يستحق البعد عن جواره.
وحظ العبد من اسم «الرحيم»: ألا يدع فاقة لمحتاج إلا ويسدها بقدر طاقته، ولا يترك فقيراً في جواره أو في بلده، إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره، إما بماله أو جاهه، أو الشفاعة إلى غيره، فإن عجز عن جميع ذلك، فيعينه بالدعاء، وإظهار الحزن، رقة عليه وعطفاً، حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته.
من لا يَرحم لا يُرحم
والمؤمن يعتقد أنه دائماً فقير إلى رحمة الله تعالى، فبهذه الرحمة الإلهية يعيش في الدنيا ويفوز في الآخرة. ولكنه يوقن أن رحمة الله لا تنال إلا برحمة الناس «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، «ومن لا يَرحم لا يُرحم»، «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء».
ورحمة المؤمن لا تقتصر على إخوانه المؤمنين ـ وإن كان دافع الإيمان المشترك يجعلهم أولى الناس بها ـ وإنما هو ينبوع يفيض بالرحمة على الناس جميعاً. وقد قال رسول الإسلام ــ صلى اللّـه عليه وسلم ــ لأصحابه: «لن تؤمنوا حتى ترحموا»، قالوا: يا رسول الله، كلّنا رحيم، قال: «إنّه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنّها رحمة العامة». (رواه الطبراني). ومن صفات المؤمنين في القرآن {وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة} (البلد 17).
بل هي رحمة تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فالمؤمن يرحمه ويتقي الله فيه، ويعلم أنه مسئول أمام ربه عن هذه العجماوات. وقد أعلن النبي ــ صلى اللّـه عليه وسلم ــ لأصحابه أن الجنة فتحت أبوابها لبغي سقت كلباً فغفر الله لها، وأن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. فإذا كان هذا عقاب من حبس هرة بغير ذنب، فماذا يكون عقاب الذين يحبسون عشرات الألوف من بنى الإنسان بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله؟!
وقال رجل: يا رسول الله، إنّي لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: «إنّه رحمتها رحمك الله» (رواه الحاكم) ورأى عمر رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له: ويلك..قدها إلى الموت قوداً جميلاً.
ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص في فتح مصر نزلت حمامة بفسطاطه ـ خيمته ـ فاتخذت من أعلاه عُشَّاً، وحين أراد عمرو الرحيل رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه، فتركه وتكاثر العمران من حوله، فكانت مدينة الفسطاط.
ويروي ابن الحكم في سيرة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه نهى عن ركض الفرس إلا لحاجة. وأنه كتب إلى صاحب السكك: أن لا يحملوا أحداً بلجام ثقيل، ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة. وكتب إلى واليه بمصر: أنه بلغني أن بمصر إبلا نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل.
هذه الرحمة الدافقة الشاملة أثر من آثار الإيمان بالله والآخرة، ذلك الإيمان الذي يرقق بنفحاته القلوب الغليظة، ويلين الأفئدة القاسية.
أرأيت إلى عمر ـ وقد كان معروفاً بالشدة والقسوة في جاهليته ـ كيف صنع الإيمان به، ففجَّر ينابيع الرحمة والرقة في قلبه. لقد قالوا: إنه وأد بنتاً له في الجاهلية، فلما ولي إمارة المؤمنين كان يرى نفسه مسئولاً أمام الله عن بغلة تعثر بأقصى البلدان.
ولقد غلبت هذه العقيدة وهذا الخلق على أعمال المسلمين الأولين، ووضحت آثارها في سلوكهم حتى مع الأعداء المحاربين، فنجد رسول الإسلام يغضب حين مر في إحدى غزواته، فوجد امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل، وينهى عن قتل النساء والشيوخ والصبيان، ومن لا مشاركة له في القتال.
بالرّحمة نعيش في الاسـلام
شوهد:1045 مرة