مصطلح الأمن الفكري مصطلح حديث معاصر تخلو منه معاجم اللغة العربية، (وهذا التعبير على حداثة مبناه إلا أنه قديم المدلول)؛ فلو نظرنا إلى مصطلحات لها بُعد تاريخي قديم كالغلو والتنطع وجدت أنها ناتجة ابتداء من انحراف في التفكير وسوء في توظيف العقل بما يتوافق مع الشرع ، وبعد عن الوسطية التي أمر بها ديننا العظيم ، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }البقرة143.
ومصطلح الأمن الفكري مركَّب من كلمتين هما: الأمن، والفكري (نسبة إلى الفكر).
لقد اكتسب مفهوم الأمن الفكري مكانته لارتباطه بالأمن والفكر، وهما الكلمتان التي رُكّب منهما هذا المصطلح.
فالأمن مطلب ضروري من مطالب الإنسان، وهو جزءٌ عظيم أيضاً، لا يتجزّأ من الإسلام، فالأمنُ من تمام الدين، ولا يتحقَّق الإسلام إلاّ بالأمن، ولا يُعمل بشعائر الدين إلا في ظلِّ الأمن، ولهذا كان من موعود الله لعباده المؤمنين، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور 55)، وقد امتنّ الله تعالى بالأمن على أهل حَرَمه فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت 67).
ثم إنّ الله أيضاً امتنّ على قريش بهذه النعمة الكبيرة، فقال سبحانه: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } (قريش 4).
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: (فرغد الرزق والأمن من الخوف من أكبر النعم الدنيوية الموجبة لشكر الله تعالى).
أما عن (الفكر) فهو مرتبط بالعقل، الذي به اهتمّ الإسلام، ورفع من قيمته (وأعلى من شأنه، وجعل التعقل والتفكير من طرق المعرفة الإسلامية، يلزم كل مسلم أن يؤديها حقها، وجعل العقل هو مناط التكليف ووسيلة الفهم والتفكُّر)، وهو من الضروريات الخمس التي أمر الإسلام بحفظها، وذكره ربنا سبحانه في القرآن في أكثر من موضع، ومن ذلك بيانه سبحانه أنه سخر للإنسان ما في السماوات والأرض وأمره بالتفكر في هذا الأمر العظيم، فقال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية 13)؛ لأن هذا التسخير يوجب على الناس أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته، وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه؛ ولهذا قال: {...إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
إن ربط الفكر بالأمن في مفهوم (الأمن الفكري) يجعلنا أمام مصطلح من المصطلحات المهمة في هذا العصر خاصة مع ما يشهده العالم من تطور وتقدم، كان له الأثر الإيجابي والسلبي في بناء العلاقات والتواصل مع الأفكار والمعارف المختلفة.
إذن فالأمن الفكري تعبير دقيق يصوّر لنا غاية الاهتمام بفكر الإنسان، وحمايته من منهجي الإفراط والتفريط، أو قُل الغلو والانحراف، فالأمن الفكري كفيل بإذن الله بحفظ فكر الفرد المسلم وحمايته، وجعله في جادة الوسطية والاعتدال.
وفي المقابل فالخلل في الأمنِ الفكريّ طريقٌ إلى الخللِ في الجانب السلوكيّ والاجتماعيّ، وما سلكَت فئامٌ في الأمّة مسالِكَ العنفِ والإرهاب والقتلِ والإرعاب والتدمير والتفجير إلاَّ تشبَّعت أفكارُها وغسِلَت أدمِغتها بما يسوِّغ لها تنفيذَ قناعاتها وتحسينَ تصرّفاتها، وذلك راجعٌ إلى رصيدٍ فكريّ ومخزون ثقافيّ أفرَزَ عملاً إجراميًّا وسلوكًا عدوانيًّا.
إن من وسائل تحقيق الأمن الفكري الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان من خطبة النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قوله: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم»، فالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما أصلا منهج التلقي، والتمسك والاعتصام بهما كفيلان ـ بإذن الله ـ بحماية الفرد والمجتمع في أمنه وفكره، ثم إنه لن يكون أعلم بهذين المصدرين من أصحاب النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وتابعيهم، ثم أهل العلم الراسخين الذين استقوا علمهم من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ومن ثم من هدي السلف الصالح رحمهم الله؛ فهم أعلم الناس وخاصة في أوقات الفتن وكثرة الشبهات والمدلهمات، فالرجوع إلى رأيهم وعدم مخالفتهم حصن حصين بإذن الله في كل وقت وحين.
لقد استفاد لصوص العقول وناشرو الفكر المنحرف الضال من حديثي السن أو حديثي التدين أو قليلي العلم فصوروا لهم المنكر معروفاً، والباطل حقاً، وزينوا لهم الشبهات فانطلت عليهم الحيل فوقعوا في أوحال الغلو والتطرُّف.
إنَّ الوسطية في كل شيء ومع كل شيء وصفت به هذه الأمة، وإن من فخرنا أن نكون كما وصفنا ربنا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، هذا هو المنهاج الوسط الذي لا إفراط فيه، ولا تفريط، ولا غلو، ولا تقصير. ثم ونحن نتحدث عن الأمن الفكري نؤكد أن طاعة ولاة أمر المسلمين ولزوم الجماعة من المسائل العقدية المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة، يؤكدون عليها ويقررونها؛ لبالغ أهميتها، وعظم شأنها، حيث لا تنظم مصالح العباد في دينهم ودنياهم إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، فيما ليس فيه معصية لله عز وجل.
وهذان الأمران، أعني ـ طاعة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة ـ لهما تأثيرهما الكبير على الفرد والمجتمع، والإخلال بهما، أو بأحدهما يؤدي إلى عدم استقرار الأمن بجميع صوره.
إنّ مسؤولية الأمن الفكري والحفاظ عليه، مسؤولية مشتركة بين كافة مؤسسات المجتمع وأفراده، فالأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمسجد، وغيرها، كلٌ له جهده المطالب به، والمسؤول عنه، والموفق من وفقه الله.
فالأسرة مثلاً هي الخليّة الأولى في بناء المجتمع، والمحضن الأول للإنسان، ففيها ينشأ ويترعرع ويكتسب المثل والقيم والمبادئ والأخلاق الحميدة، وهي جزء لا يتجزأ من بناء شخصية الفرد داخله، فعلى الوالدين العناية بهذا الأمر وتربية الأبناء التربية الصالحة التي تنطلق من منهج الوسطية المأمور به.ويحسن بهم الحرص على معرفة أصدقاء أبنائهم وقرنائهم، وتوجيههم متى ما وجدوا ملحوظة على هذا الصديق.
كما ينبغي الحرص أيضاً على مراقبة الأبناء وتوجيههم في تعاملهم مع التقنيات الحديثة وخاصة ما يسمى بالإنترنت؛ فهو بوابة كبيرة لتبادل المعلومات والاطلاع على الثقافات وفيه الصالح والطالح، والحسن والقبيح، فعلى الشاب أولاً ـ المتعامل مع الإنترنت ـ أن يحرص غاية الحرص، على ألا يجعل لأرباب الفكر الضال على عقله باباً، بالاطلاع على مواقعهم أو كتابتهم حتى من باب الفضول؛ فقد تقع الشبهة ويصعب تداركها، ويحسن بالآباء مراعاة ذلك والتذكير به.
إنّ موضوع الأمن الفكري موضوع كبير متشعب، لكن لعل في الإشارات التي ذكرنا تنبيهاً للاهتمام بهذا الموضوع، ونسأل الله جل جلاله أن يحفظ شبابنا من كل مكروه، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه وأن يريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، وأن يرد ضالهم إلى طريق الهداية والرشاد.
وسطيــة الاسـلام والأمــن الفكــري
شوهد:1079 مرة