بعد 17 عاماً قضاها في سجون الاحتلال، أفرج عن شيخ الأسرى وأكبرهم سنّاً فؤاد الشوبكي أبو حازم، أحد أبطال عملية سفينة الكارين A والتي أطلقت عليها دولة الاحتلال الصهيونى عملية سفينة نوح.
أطلق اسم “سفينة نوح”، ربّما لأنّ طوفان الاجتياحات والجرائم الصهيونية التي فاقت التصوّر خلال الانتفاضة الثانية عام 2000، استدعت سفينة إنقاذ بحرية لنصرة الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده في وجه الآلة الحربية العسكرية الصهيونية التي اجتاحت الأراضي الفلسطينية المحتلة قتلاً وتدميراً واعتقالاً، وخلالها ارتكبت مجازر فظيعة ولا زالت هذه الجرائم مستمرّة ومتواصلة.
أربعة عشر بحّاراً فلسطينياً وعربياً بقيادة الأسير الفلسطيني عمر عكاوي عبروا البحر الأحمر باتجاه البحر المتوسط للوصول إلى الشواطئ الفلسطينية في غزّة، أمواج الانتفاضة المشتعلة كانت تدفعها وسط الرياح العاتية، السفينة مسرعة، صوت أبو عمار المحاصر في المقاطعة تحثّها على اجتياز كلّ العقبات الأمنية والطبيعية، صوت الشهداء في مخيّم جنين وكنيسة المهد، صوت آلاف المعتقلين والمحاصرين والمنكوبين، صوت القدس المنتفضة في وجه الاعتداءات والاقتحامات، السفينة المحمّلة بالذخيرة والأسلحة تستجيب لنداء الأرض المحتلّة ومخطّطات تصفية القضية الفلسطينية التي أسفر عنها مؤتمر كامب ديفيد عام 2000، القدس عصيّة على المقايضة، حقّ تقرير المصير كفيل أن يحرّك الأرض والسماء لتعبر سفينة الإرادة كلّ المخاضات المظلمة، فإمّا أميراً وإما حرّاً وإما الردى.
شيخ الأسرى فؤاد الشوبكي المشرف على العملية كان ينتظر، السفينة نجت من الأقمار الصناعية الأمريكية، ومن أجهزة المراقبة الصهيونية، عبرت المحيط الهندي، مسارب في البحر، طرق فوق الأمواج العالية، وكان لا بد من الردّ على النيران الصهيونية المنفلتة، الطائرات والصواريخ والإعدامات الميدانية، كان لا بد من الردّ على هؤلاء الطغاة الذين حرقوا قرية حوارة، كان لا بد من الردّ على الجنرال موفاز الذي أراد أن يصهر وعي الفلسطينيين بالحديد والبارود ويعتقل أحمد سعدات ومروان البرغوثي متمنياً أن يكون رماداً في جرّة.
الرياح الفلسطينية تقود سفينة نوح إلى وطنها، يحرّكها الإله والانتماء وصلوات القدس في هباتها المتكرّرة، وكان لا بد من الردّ على اقتحامات شارون وبن غفير والصهيونية الدينية الفاشية للمسجد الأقصى، وكان لا بد من الردّ على مذابح جنين ونابلس والخروج من دائرة السلام المخادع الذي وضع كلّ الشعب الفلسطيني في شباك المصيدة.
سفينة الشوبكي وصلت، تحرّر من الأمراض التي زرعها السجن في جسده، ها هو في رام الله يتفقّد سفينته العظيمة التي غيّرت مسار الانتفاضة، السفينة لا زالت مملوءة بالأسلحة، على ظهرها الآلاف من الشبان المتمرّدين الجريئين، أجيال لم تغرق في البحر، أجيال تنهض في كلّ مرحلة، سفينة الوعي الفلسطيني تجتاز الأسلاك الشائكة، تهدم السور الواقي الذي يحيط العقل والروح، سلطة الصهاينة هي التي تغرق الآن في ظلاميتها الدينية والعنصرية، تتصدّع من داخلها، تدفع الثمن كدولة محتلّة، دولة أبرتهايد واستعمار استيطاني، يقودها الحاخام والسيف والنزعة العسكرتارية.
القادة الصهاينة والسجّانون الذين اعتقلوا الشوبكي، ها هم الآن يعترفون أنّ دولتهم البوليسية تقودها عصابة وطغاة متوحّشون، وأنّها تتجه لتتحوّل إلى دولة دكتاتورية عنصرية، دولة خراب، ويعترفون أكثر أنّ إلقاء القبض على الشوبكي ورفاقه في البحر لم يوقف السفينة، على متنها شعب عظيم، شعب يقاوم لم يصهره السجن ويغيبه الموت، فسفينة نوح صنعت لحماية الشعب الفلسطيني من الطوفان الصهيوني، هي سفينة الحياة، سفينة من وحي الإله. سفينة الشوبكي وصلت رام الله وأبعد، شيخ الأسرى يشكر البحر وهو يعلن الفيضان في سجون الاحتلال، الأسرى يستعدّون لعبور اللجج المتلاطمة، ينتفضون دفاعاً عن كرامتهم وإنسانيتهم وحقوقهم العادلة، سفينة الأسرى تتحرّك في كلّ السجون، ملحمة أخرى لن يستطيع ابن غفير وقوانينه الفاشية أن تخمدها.
شيخ الأسرى فؤاد الشوبكي لا يحسب سنين عمره وفق تقويم السجن، لهذا يخاطبه قائلاً: أيّها العمر المتنامي على عجل تريّث قليلاً، فأنت أكثر جمالاً ورقّة، والسجن ليس هو الأزل، والموت ليس هو القضية، إنّ التضحيات ومعاني الصمود والشرف الإنساني والوفاء هي تعويض الأحرار عن الزمن الضائع، ويقول: الوقت متوقف ومتشابه، ولكنّ أحلامنا تنحدر نحو البحر وتصبّ في الحقول وترتمي في أحضانها، علّمني البحر أنّ الزمن الإنساني لا ينحصر بين القاع والسطح، ولا بين الجدار والصدى، هناك ساعة القلب المشمسة، والشاطئ الذي أراه يقترب ثمّ يقترب.
سفينة الشوبكي وصلت، ذخيرة ثقيلة من الصبر والإيمان والصمود، سلام على البحر والأسرى، يقول الشوبكي وهو يرفع علم فلسطين فوق السارية.
• توفي الأسير المحرّر اللّواء فؤاد الشوبكى، يوم الخميس الموافق لـ 19/12/2024، بعد مسيرة نضاليّة لم يتوانَ خلالها عن تأدية دوره النضاليّ والطليعيّ في الدفاع عن شعبنا وحقوقه الوطنيّة المشروعة.