برنامج وطنـي لتوفير 1.5 مليار م3 سنويا من المياه المصفاة

محطّات “الجيل الخامس” تعزّز قدرات الجزائر المائية

سعاد بوعبوش

توجّهت الجزائر مبكرا، نحو استغلال موارد مائية غير تقليدية، لتلبية حاجاتها المتزايدة سنويا، في مجال الفلاحة والصناعة وغيرها من المجالات الصناعية المنتجة، ويعدّ الاستثمار في محطّات تصفية المياه المستعملة وبأحدث التقنيات على غرار محطّات الجيل الخامس (نموذج ولاية بشار) “خيارا استراتيجيا” تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون المتعلقة بتحضير مخطّط محكم وواضح لاستعمال مياه محطات تصفية المياه في الصناعة وأنشطة الرّي الفلاحي، على اعتبار أن تحقيق الأمن الغذائي المستدام مرهون بتحقيق الأمن المائي، خاصّة وأن 70 % من الموارد المائية التي يحشدها القطاع موجّهة للسّقي الفلاحي، ما يستدعي توفير موارد غير تقليدية توجّه لهذا المجال كالمياه المستعملة المصفاة والتي تعتبر مصدرا مهما بعد المياه السطحية والجوفية ومياه البحر المحلاة”.

أوامر الرئيس واضحة في عدّة اجتماعات لمجلس الوزراء في هذا الخصوص سيما ما تعلّق بتحديد دقيق لنسبة المياه المسترجعة وفق عمليات التصفية، وتحديد الاحتياجات وطنيا، ناهيك عن الإحصاء التقني لكل محطّات التصفية المعطلة والتي هي في الخدمة بكل بلدية وولاية بهدف تحديد قدرات الإنتاج، وذلك انطلاقا من مؤشرات استدلالية أخرى تتعلق بتسجيل الاحتياجات لتطوير المكننة الخاصة بهذا القطاع، ضمن برنامج الحكومة مع إعطاء الأولوية للولايات التي لا تعالج فيها المياه المستعملة، لاستخدامها في المجال الفلاحي مباشرة بدل اللّجوء للمياه الجوفية المصنفة في الاحتياط الاستراتيجي، مع تحديد هدف استغلال 60 % من الكميات المسترجعة على المستوى الوطني لآفاق 2030، لاستخدامها في الري الفلاحي وفي قطاع الصناعة.
وتهدف الاستراتيجية الوطنية للمياه التي تعتمد على رفع مساهمة المصادر غير التقليدية وجعلها البديل المتجدّد لمواجهة الطلب المتزايد على ماء الشروب، خاصة وأن نسبة امتلاء السدود اليوم، هي في حدود 34.94 % التي تعتمد الفلاحة عليها من أجل عمليات الرّي، وهي نسبة ضعيفة جدا بعد ثلاث سنوات من الجفاف ما يفرض طرق جديدة للتسيير وترشيد الاستهلاك لمواجهة العجز المائي.
في هذا السياق تعوّل الجزائر على تعميم استغلال هذه المياه المصفاة من خلال عصرنة المحطات وإعادة تأهيلها، خاصة بعد أن أثبتت تجربة استعمال المياه المستعملة المصفاة نجاحها في العديد من المحيطات الفلاحية الكبرى، عبر عدّة ولايات من الوطن وبمحيطات كبرى من خلال التنسيق مع الديوان الوطني للسّقي والتطهير”لونيد” وذلك في كل من وهران، تلمسان، بومرداس، المدية ومعسكر.
تواجد 37 نظام تطهير قرب السدّ الأخضر..
ويتعدى استغلال المياه المستعملة المصفاة مجال سقي الأراضي الفلاحية، الى مسعى تطوير السد الأخضر من خلال بحث سبل سقي محيطاته بهذا المورد، سيما مع وجود 37 نظام تطهير بمقربة من هذا الصرح الايكولوجي والحيوي، يمكّن من توفير 100 مليون م3 سنويا، إلى جانب عزم الوزارة على إنجاز أنظمة لسقي المساحات الغابية التي تدخل ضمن السد الأخضر نظير ما يقدّمه من منفعة لمناطق الهضاب العليا والمناطق الداخلية للحدّ من ظاهرة التصّحر.
ويمثل هذا التوّجه استثمارا حقيقيا بالنسبة للجزائر، حيث تعدّ بلادنا من الدول الرائدة في مجال التطهير، حيث فاقت النسبة الوطنية للربط بشبكات الصرف الصحي 93 %، وتحققت هذه النسبة من خلال إنجاز شبكة تطهير بطول إجمالي يفوق 97 ألف كلم، إلى جانب توفر 232 نظام تصفية من بينها 181 محطة يديرها الديوان الوطني للتطهير “أونا”، وهو ما مكّن من الوصول إلى قدرة تصفية نظرية تفوق مليار م3 سنويا وحجم تصفية حاليا فاق 590 مليون م3 سنويا، أي بنسبة 54 %، من قدرات التصفية المتاحة.
ويسعى قطاع الموارد المائية إلى تعميم المعالجة الثلاثية بمحطات التطهير لاستغلال المياه فلاحيا، حيث تحصي الجزائر 18 محطة يعاد استخدام مياهها في السقي الفلاحي لأنها تعتمد على التطهير الثلاثي فيما تم برمجة 30 محطة أخرى بهذه التقنية في آفاق 2026، لاستخدامها في الفلاحة وسقي كل المحاصيل الفلاحية باختلاف أنواعها دون الاقتصار على الحبوب والأشجار، ما سيسمح برفع الكمية المنتجة الى 1.4 مليار م3.
تصفية المياه ومعالجة الحمأة
في المقابل يحرص القطاع على اعتماد وتبني آخر الحلول والتقنيات المبتكرة، للارتقاء باستعمال المياه المصفاة، وتعد محطة معالجة وتصفية المياه المستعملة الجاري إنجازها بجنوب بشار مشروعا نموذجيا من حيث الحفاظ على الموارد المائية، حيث سيتم تزويد هذه المنشأة بتجهيزات جدّ حديثة لما قبل المعالجة والمعالجة البيولوجية للمياه المستعملة والمعالجة الثلاثية، سيما مخلفات المياه المستعملة الطمي أو الحمأة لتستعمل في المجال الفلاحي.
وكانت هذه المحطة التي تعدّ من الجيل الخامس، قد انطلقت أشغالها بجنوب بشار في ديسمبر 2020، حيث ستتوفر عند دخولها حيز الاستغلال على طاقة معالجة تصل إلى 55 ألف م3 يوميا، ما يسمح بالتكفل بالمياه المستعملة لساكنة بتعداد 386 ألف نسمة.
وشملت أشغال إنجاز ثلاثة أحواض تصفية، ومحطة ما قبل المعالجة وثلاثة أحواض أخرى لتنقية المياه المستعملة، إضافة إلى حوضين سميكين على شكل دائري لمعالجة الطمي وسرير للتجفيف، وسيتم توجيه المياه المستعملة الحضرية المعالجة والمصفاة بالمحطة لأغراض السقي الفلاحي لفائدة مساحة زراعية قوامها 1.200 هكتار، كما يمكن إعادة ضخّها بوادي بشار دون تلويث هذا الموقع الطبيعي العابر لذات المدينة على مسافة تتجاوز 17 كلم، والذي سجلت بشأنه عملية إعادة تهيئة لاستحداث فضاء للراحة والترفيه للساكنة، وهو المشروع المدرج ضمن قائمة مشاريع قطاع الموارد المائية والأمن المائي بولاية بشار.
في المقابل سيساهم مشروع محطة معالجة وتصفية المياه المستعملة ببشار والممتدة على مساحة 40 هكتارا، في حماية الصحة العمومية من الأمراض المتنقلة عن طريق المياه وكذا المحافظة على البيئة وتحسين نمط الحياة والوسط بهذه الولاية.
تكويـن الإطـارات
وفي إطار تطوير البحث العلمي والتكنولوجي في مجال تصفية المياه المستعملة، من أجل إيجاد حلول مبتكرة وطنية من شأنها الرفع من حجم المياه المصفاة وتوسيع مجالات استخدامها خاصّة في ظل تأثيرات التغيّرات المناخية، يواكب قطاع التعليم العالي احتياجات مختلف القطاعات من بينها قطاع الرّي، من خلال العمل على تكوين جيل جديد من المقاولين يقود اقتصاد المعرفة بالجزائر.
فالبداية كانت بتوقيع اتفاقية إطار بين قطاعي الري والتعليم العالي أواخر سنة 2021، والتي تمثل مرجعا وإطارا تنظيميا للعمل المشترك والتعاون في مجال البحث العلمي والتكنولوجي المتعلّق بالخدمة العمومية للمياه، وللتحكم أكثر في التقنيات الحديثة والتكنولوجيات المستعملة في مجال الرّي، خاصّة وأن المعطيات الجديدة التي فرضتها التغيّرات المناخية كان لها أثر كبير على قطاع الرّي، ما يستدعي إيجاد حلول بديلة أكثر استدامة من أجل توفير موارد مائية لا تتأثر بهذه التغيّرات وتحقّق الأمن المائي أحدّ مكوّنات الأمن القومي.
وتم بموجب ذلك إطلاق مشروع علمي بين مجموعة من الجامعات، والوكالة الوطنية للموارد المائية، والوكالة الوطنية للتسيير المدمج للموارد المائية، والذي يتمثل في وضع نموذج رياضي لجمع معطيات محيّنة حول المياه الجوفية في جنوب البلاد، بهدف استغلال هذا الموارد بصورة عقلانية تضمن الحفاظ عليه للأجيال القادمة.
وتم أيضا استحداث تخصصات جديدة تتعلق باستحداث قطب جامعي شرع في تدريس تخصصات على صلة بتحلية مياه البحر والمياه المالحة بالصحراء، ابتداء من الموسم الجامعي 2023، ويتعلق الأمر باستحداث قطب جامعي “إمتياز” يتكوّن من جامعة هواري بومدين بباب الزوار والمدرسة العليا للرّي بالبليدة والمدرسة الوطنية المتعدّدة التقنيات بوهران وجامعة ورقلة، وذلك بهدف تكوين إطارات جزائرية تتحكّم في تقنيات جميع مسارات إنتاج الماء الشروب.
وفي مجال التطهير وبفضل هذا التحوّل للجامعة الجزائرية لتكون قاطرة الاقتصاد الوطني من خلال انفتاحها على المحيط الاقتصادي، تم إطلاق مشروع علمي بين جامعة سيدي بلعباس والديوان الوطني للتطهير، يتعلّق بتصفية المياه المستعملة عبر استعمال تكنولوجيات التصفية بالأوزون، والتي تعتبر من بين الأكثر التكنولوجيات المستعملة في البلدان المتقدّمة حاليا، حيث تضمن هذه التقنية مياه مصفاة ومعالجة تمكننا من استعمالها في مجالات أخرى.
وجاء هذا المشروع العلمي بالموازاة مع الإستراتيجية الطموحة التي تبناها قطاع الرّي المتعلقة باستعمال المياه المصفاة في المجالين الفلاحي والصناعي، لما تمثله هذه المياه من موارد معتبرة ومتجدّدة، خاصّة وأن هذا المشروع العلمي يساهم أيضا في مسعى القطاع لتطوير وعصرنة المرفق العمومي للتطهير بما يحافظ على الصحة العمومية وعلى البيئة والمحيط.
في هذا السياق، أحصى قطاع التعليم العالي استحداث 37 مؤسسة ناشئة ومصغرة تعمل في مجال تثمين المياه المستعملة مع تسجيل 50 مشروع بحث وطني ودولي، إلى جانب نشاط 11 مخبرا علميا في هذا الميدان، بحسب ما كشف عنه الوزير كمال بيداري والذي وصفه بـ “أبرز الرهانات”.
ومؤخرا وقعت المدرسة الوطنية العليا لعلوم البحر وتهيئة الساحل اتفاقية تعاون مع الديوان الوطني للتطهير، تقديم تكوين لفائدة مهندسي الديوان من قبل المدرسة لا سيما في النماذج الرياضية المستعملة، حيث تعدّ هذه الاتفاقية بمثابة فرصة لتمكين مهندسي “أونا” من الاطلاع على مستجدات البحوث العلمية المنجزة في المدرسة إلى جانب استفادة الطلبة من فترات تكوينية في هذا الميدان، بمرافقة مهندسي الديوان لتعريفهم بالتقنيات والتكنولوجيات المستعملة في مسار تصفية المياه المستعملة وإعادة استخدامها وكذا إشراكهم في البحوث العلمية التي يقوم بها الديوان.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19720

العدد 19720

الإثنين 10 مارس 2025
العدد 19719

العدد 19719

الأحد 09 مارس 2025
العدد 19718

العدد 19718

السبت 08 مارس 2025
العدد 19717

العدد 19717

الخميس 06 مارس 2025