المبادرات الخيرية..جسور تواصل ومحرّكات للتّكافل الاجتماعي
ثمّن الدكتور يحيى شريفي أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الجزائر 2، الدور الاجتماعي الذي ما زالت الدولة الجزائرية تأخذه على عاتقها، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، حيث لا تزال تخصّص مساعدات للفئات الهشة والضعيفة، دون إغفال ما تقوم به من تدعيم لأسعار المواد واسعة الاستهلاك، وهو ما تستفيد منه الطبقة الوسطى وغيرها من الطبقات.
يؤكّد الدكتور شريفي في تصريحه لـ “الشعب”، أنّه حين الحديث عن المبادرات الخيرية نجد أن الجمعيات لها نصيب الأسد في القيام بهذه النشاطات، ذلك أن فلسفة الدولة الجزائرية وكذا الدستور، كوثيقة مرجعية عليا تنظّم النشاط السياسي والاجتماعي، تقر بوجود هيئات المجتمع المدني، وتعتبرها من الفواعل الرسمية في تأطير النشاط الاجتماعي داخل الفضاء الاجتماعي، وعليه فالدولة تراقب وتسن القوانين التي تؤطر النشاط الاجتماعي، كما هو الحال بالنسبة للمبادرات الخيرية، وتترك المجال مفتوحا للقيام بالمبادرات الخيرية أمام هيئات المجتمع المدني المعتمدة، أو التي تنشط وفق القوانين المنظمة لسير النشاطات الاجتماعية.
وقال المتحدّث “إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يسعى لتحقيق ذاته الاجتماعية من خلال الانتماء والمشاركة”، موضّحا أن “المبادرات الخيرية توفر هذا الإطار، حيث يشعر الفرد بالانتماء والمسؤولية تجاه مجتمعه، ممّا يعزز اللحمة الوطنية ويقوي الروابط الاجتماعية، ويجسّد للمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية التي يكتسبها الأفراد من خلال التنشئة الاجتماعية، والتي يستلهمون فيها قيمهم من الدين الإسلامي الحنيف”.
واعتبر المبادرات الخيرية “مؤشّر صحي” على التماسك الاجتماعي للمجتمع، ودلالة واضحة على قوة الرابط الاجتماعي، هذا الأخير اعتبره المتحدث من المفاهيم المحورية في الحقل السوسيولوجي، ذلك أنّ المبادرات الخيرية في مجتمع ما، تترجم تفعيله لمدونة أخلاقية راقية، وتعبر عن تراث ديني وثقافي ذو طبيعة تاريخية، يحمل في طياته الكثير من قيم التكافل والتعاون والتآخي، مشيرا إلى أنّ السوسيولوجيا وهي تبحث عن إجابات عن تماسك المجتمع وتعزيز روابطه الاجتماعية، لن تضل طريقها نحو التنقيب في هذه التراث الثري بقيم التضامن والإيثاريّة، وتقديم المصلحة الجماعية على حساب الفردانية والأنانية الضيقة.
جــذور تاريخيـة وقيـم متأصّلـــة
وأوضح الدّكتور شريفي، أنّ المسؤولية الاجتماعية ليست وليدة اللحظة، ولا هي نتاج لحظة تاريخية محدّدة، من منظورنا السوسيولوجي، وإنما هي مسار تفاعل البنى الثقافية من منظومة دينية وأعراف وتقاليد، دأبت الجماعة الاجتماعية منذ بدايات تشكّلها على تحويلها إلى روابط اجتماعية، تسمح للحياة الإنسانية بالمضي قدما، وهذا يدفعنا إلى القول بأن المبادرات الخيرية ليست وليدة اليوم، وإنما تضرب بجذورها في عمق التاريخ، ويضاف إلى ذلك كله معيار تماسك المجتمع، الذي يقاس من خلال تحمل أفراده للمسؤولية الاجتماعية، التي تعد فعلا حضاريا يرتقي بالإنسان، وينأى به عن البربرية والتوحش والفردانية المقيتة.
مبـادرة “وافعلــــوا الخــير” نموذجـاً
واستدلّ الدكتور المتحدث بمبادرة “وافعلوا الخير” كنموذج ناجح للمبادرات الخيرية في الجزائر، موضّحا أن هذه المبادرة، التي تغطي جميع ولايات الوطن، تعكس قوة الطرح والفعالية التنظيمية للمجتمع المدني، وتجسّد روح التضامن والتكافل التي يتميز بها الشعب الجزائري، داعيا إلى التجند والتضامن، كون المبادرات الخيرية هي مشروع واعد لتجسيد التضامن الاجتماعي وتحقيق الأخوة الإنسانية، مضيفا أنه وجب على الجميع أن يتجند من أجل دعم هذه المبادرات لتعزيز الروابط الاجتماعية وتقوية اللحمة الوطنية، باعتبار أن المبادرات الخيرية في الجزائر ليست مجرد أعمال إحسانية، بل هي تعبير عن قيم متأصلة في المجتمع، ورافد أساسي لتعزيز التماسك الاجتماعي وتحقيق التنمية المستدامة.
صمّام أمان للمجتمع وتعزيز للتّكافل الاجتماعي
من جهته، اعتبر الدكتور عبد السلام فيلالي أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة باجي مختار - عنابة، المبادرات الخيرية صمّام أمان للمجتمع وتعزيز للتكافل الاجتماعي، ففي ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المجتمعات، تبرز المبادرات الخيرية كصمام أمان، تسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية وتقوية شعور المسؤولية الجماعية تجاه الفئات الهشة، فهي ليست مجرد أعمال إنسانية عابرة، بل هي دعامة أساسية لبناء مجتمع متماسك ومتكافل.
وأكّد الدكتور فيلالي أنّه ثمة مقاربة ننطلق منها في مقاربة المجتمع - حتى يعمل بكفاءة - لا بد أن تقوم مختلف عناصره بأداء وظائفها، ومن ثم يحدث التكامل وبالتالي استقراره، وهكذا يمكن اعتبار المبادرات الخيرية، العمل الذي يجعل النظام الاجتماعي يعمل بكفاءة، من حيث أنه عمل تضامن بين مختلف أنساقه، فمن الناحية الإنسانية، اعتبر المتحدّث بروز عمليات التكافل وتقديم المساعدة ونجدة المحروم، بمثابة صيانة للمجتمع من التفكك، مضيفا أنّه قد يكون الأمر غير ذي شأن بالنسبة للحالات الفردية، لكن إذا نظرنا له في السياق المجتمعي العام فإنّه أمر حيوي، ومثل هكذا تصوّر هو تصور مؤسساتي، أي يجب أن يكون ضمن اهتمامات مؤسسات الدولة، ثم تنضم مختلف الأعمال الخيرية لكي تشكّل درعا قويا لصيانة المجتمع.
وأشار المتحدث إلى أنّ هذا التصور يمكن تعميمه على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية: التربية التعليم، الصحية، الحاجات الأساسية كالمأكل والمشرب والملبس والسكن، فيقوي ذلك - حسبه - من اللحمة الاجتماعية والتماسك المجتمعي، بمعنى أن ما ننظر إليه على أساس أنه مجرد عمل خيري إنساني هو في منتهاه عمل داعم وهيكلي في حياة المجتمع والدولة أيضا.
وأوضح المختص في علم الاجتماع السياسي، أنّ دور الدولة هو سياقي، بمعنى أنه يتجاوز مجال الإحساس والعواطف والظرفية إلى اعتباره عملا هيكيليا، مثلما هو الحال مع عمل الصيانة أو الإصلاح الذي نلجأ إليه لأجل سلامة مؤسسة أو بناء، مشيرا إلى أن فكرة التضامن فكرة جوهرية في عمل مؤسسات الدولة، ثم تنضم إليها باقي المبادرات، ويُنظر إليها كاستمرار في ديناميكية عمل مؤسسات الدولة. كمثال، الإعفاء الضريبي الذي تقنّنه الدولة في سياق أي عمل خيري الذي يعني كل أنشطة المتبرع، فالمعنى من هكذا تشريع هو تشجيع المبادرات التضامنية والخيرية، حيث يشجع الأفراد والمؤسسات على الانخراط في العمل الخيري، ويساهم في توسيع نطاق المستفيدين.
تعزيــــز للشّعــور بالمسؤوليـــة الجماعيـــة
وقال الدكتور فيلالي، إنّ المبادرات الخيرية تساهم في إيقاظ الشعور بالمسؤولية الجماعية، وتعزيز قيم التكافل والتضامن، فهي ليست مجرّد تقديم مساعدات مادية، بل هي تعبير عن الانتماء للمجتمع والحرص على سلامته، وفي أوقات الأزمات، تبرز أهمية هذه المبادرات بشكل خاص، حيث تساهم في تخفيف المعاناة وتعزيز الشعور بالأمان والثقة، دون إغفال أن قيم التكافل والتضامن متأصّلة في التراث الإسلامي، حيث يحث الدين الحنيف على مساعدة المحتاجين وتقديم الدعم لهم، وقد تجسّدت هذه القيم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يدعو إلى التكافل بين أفراد المجتمع، لافتا أن العادات والتقاليد الجزائرية تزخر بصور التكافل والتضامن، خاصة في المناسبات الدينية والاجتماعية
وقال المتحدث إنّ وسائل الإعلام تلعب دورًا حيويًا في نشر ثقافة الخير والتضامن، من خلال تسليط الضوء على المبادرات الخيرية الناجحة والاحتفاء بها، فالإعلام - حسبه - قادر على تحويل الأعمال الخيرية الفردية إلى نماذج مجتمعية يحتذى بها، وتشجيع المزيد من الأفراد والمؤسسات على الانخراط في العمل الخيري، مشيرا إلى أن المبادرات الخيرية ليست مسؤولية المؤسسات والجمعيات فقط، بل هي مسؤولية كل فرد في المجتمع، فكل منا يستطيع أن يساهم في بناء مجتمع متكافل من خلال المشاركة في الأعمال الخيرية، سواء بالتبرع بالمال أو الوقت أو الجهد، داعيا إلى جعل العطاء ثقافة، ومن التكافل والتضامن قيمًا أساسية في مجتمعنا.