رسائل ودلالات في الذكرى المزدوجة لتأسيس المركزية النقابية وتأميم المحروقات

ثـورة صاغها الأحرار ورصيد نضالي مشرّف

سهام بوعموشة

استكمال مسيرة الأجداد وبناء جزائر منتصرة اقتصاديّا وثقافيّا

 24 فيفري..الذّكرى المزدوجة لتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريّين وتأميم المحروقات..محطّتان خالدتان تحمل في طيّاتهما رمزية عالية في تاريخ الجزائر، إذ تمثّلان معاني تضحية الشعب الجزائري وصموده وإصراره على تقرير مصيره، واستكمال بسط سيادته على ثرواته وخيراته، وتسخيرها لرسم مستقبله وتحقيق تطلعاته المشروعة في التقدم والتنمية، مثلما قال رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في خطابه العام الماضي بمناسبة هذه الذكرى.
 يستكمل جيل اليوم مسيرة النضال التي خاضها أجدادهم بالأمس، للانعتاق من قيود الظلم والتقتيل والتعذيب والتشريد الذي فرضته الآلة الاستعمارية، وسيبقى الرصيد النضالي للعمال الجزائريّين وتضحياتهم خالدة في ذاكرة الجزائريّين. كان العامل الجزائري، خلال الاحتلال الفرنسي، مهمّشا مهضوم الحقوق، ما دفع جبهة التحرير الوطني ممثّلة في عبان رمضان، بعد مؤتمر الصومام إلى تكليف الشهيد عيسات إيدير، رمز الحركة النقابية بالجزائر، إلى تأسيس الإتحاد العام للعمال الجزائريّين بتاريخ 24 فيفري 1956، ليصبح فضاءً اجتماعيّا وسياسيّا للدفاع عن حقوق الجزائريّين ومساندة الكفاح التحرّري الوطني.
ويوضّح الدكتور بوعلام بن حمودة، في كتابه بعنوان “الثورة الجزائرية: ثورة أول نوفمبر 1954، معالمها الأساسية”، أنّ المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للعمال الجزائريّين انعقد بمقر الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، بالقرب من جامع كتشاوة بالعاصمة، وقد وضع القانون الأساسي لدى محافظة الجزائر، وكان الهدف الرّسمي الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية للعمال الجزائريّين، لكن المقصود ضمنيّا تجنيد العمال حول الثورة التحريرية، يؤكّد الباحث. أدركت إدارة الاحتلال الفرنسي دور العمّال والنقابيّين في الثورة التحريرية، فشنّت عليهم حملة اعتقالات وزجّت بهم في معسكرات البرواقية وبوسوي، وسلّطت عليهم تعذيبا وحشيا.

الطّبقة العاملة تدعم الثّورة المباركة

 استطاع الاتحاد العام للعمال الجزائريّين كسب تأييد الطبقة العاملة في العالم للقضية الجزائرية، والمرافعة ضد الجرائم التي ترتكبها فرنسا بالجزائر، وارتبطت هيكلة الاتحاد بهيكلة جبهة التحرير الوطني بالداخل والخارج. تشكّلت المركزية النقابية من نقابيّي المؤسسات والورشات، الاتحادات المحلية، الاتحادات الإقليمية الخاصة بالمناطق، والاتحادات الوطنية الوظيفية، وبعد إلقاء القبض على عناصر من السكريتارية العامة، أصبحت تنظيمات إدارة الاتحاد العام للعمال الجزائريّين تتكوّن من لجنة تنفيذية مكوّنة من 43 عضوا، مكتب الجزائر يضم مكلفين بالخزينة، وتعليم الإطارات، إضافة إلى العديد من الممثليات تختص بالتجنيد، الدعاية والصّحافة، سكريتارية النيابة ولجنة رقابة.
أنشأ الاتحاد في مارس 1957، الودادية العامة للعمال الجزائريّين بفرنسا، بدافع تنظيم المغتربين في العمل التحرّري الذي تقوده جبهة التحرير الوطني، وأعلن عن تنظيم 150 ألف عامل في 100 نقابة تابعة له، حسبما يشير إليه الأستاذ بجامعة باتنة، عيسى ليتيم، في دراسة بعنوان “دور نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريّين في تدويل المشكلة الجزائرية: الجامعة العالمية للنقابات الحرة نموذجا”.
ويضيف الباحث: “دعا الاتحاد لمساندة إضراب الثمانية أيام التاريخي، الذي دعت إليه جبهة التحرير الوطني لدعم طرح القضية الجزائرية في الأمم المتحدة في جانفي 1957”، وقد صرّح رشيد عبد العزيز السكرتير العام وقتها، قائلا إنّ “الاتحاد لن يقبل بأي شرط تضعه فرنسا أمام المفاوضات” وإنّ “الحل الوحيد لوقف إطلاق النار هو القبول بتأسيس حكومة ستكون كفيلة بمناقشة ذلك”. وطالب رشيد عبد العزيز باعتراف الحكومة الفرنسية بالاتحاد العام للعمال الجزائريّين وإطلاق سراح مناضليه.

اعتقالات بالجملة في حق النّقابيّين

 وبسبب إضراب الثمانية أيام التاريخي، تعرّض الاتحاد إلى موجة اعتقالات شديدة وإغلاق مقرّاته وملاحقات قضائية للعديد من مسيّريه، وفرض الإقامة الجبرية على آخرين، ما أدى إلى تأسيس ممثلية خارجية لهذا التنظيم، مقرّها بساحة محمد علي بتونس، وكان من أعضائها في أكتوبر 1958 مولود قايد، خلفا لعبد العزيز رشيد، وضمّت الأمانة العامة سافي بوديسة، أحمد دمرجي، دحمون دكار، أمبارك جيلالي عبد القادر، ومعاشو.

عيسات إيدير..شاهد وشهيد

 تجمع شهادات كل من ناضل مع الشهيد عيسات ايدير، أنه تميّز بصفة القيادة في كل المواقف، وكان ملتزما بالدفاع عن المحبوسين، ويمارس دوره النقابي والتنظيمي من داخل السّجن، عبر تنظيم المعتقلين والدفاع عن حقوقهم أمام الجلادين الفرنسيّين. وكان للشهيد ورفاقه المعتقلين دور في مساندة إضراب الثمانية أيام التاريخي، بالإضراب عن الطعام، وتعرّضوا للتعذيب بأنابيب النار. ساهم عيسات ايدير في تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريّين وكان أوّل أمين عام له، عيّن عضو في المجلس الوطني للثورة في مؤتمر الصومام إلى غاية اعتقاله في 23 ماي 1956، لتبدأ رحلة معاناته في السّجون والمعتقلات الفرنسية.
ولد عيسات إيدير في قرية جمعة الصهاريج ببلدية مقلع بولاية تيزي وزو، بتاريخ 11 جوان 1915، فَقَد والدته وهو في السادسة من عمره، ما ترك في نفسه حزنا كبيرا، حسبما تذكر مصادر تاريخية. تلقى الشهيد عيسات ايدير، الدروس القرآنية في المسجد القريب من المنزل العائلي، وحفظ شيئا من القرآن..التحق بالمدرسة الابتدائية وتحصّل على منحة الالتحاق بالمدرسة الابتدائية العليا بتيزي وزو، عام 1930، لم يستفد من النظام الداخلي، ممّا أجبره على طلب المساعدة من البعثة التبشيرية البروتستانتية، يؤكّد الدكتور محمود آيت مدور، في مقال نشر بالعدد 44 ديسمبر 2015، من مجّلة التواصل في العلوم الإنسانية والاجتماعية بعنوان “عيسات إيدير: مسار ومصير”.
ويضيف: “عيسات إيدير كان يلقّب بإيدير العاقل من قبل زملائه، إذ لم يكن يصدر منه أيّ تصرف عنيف، كان متمكّنا في الرياضيات ويتقن الفرنسية. لم يتمكّن من متابعة الدراسة في بوزريعة والتحق بخاله في تونس، أين تابع دراسته في المحاسبة، كما تلقّى معارف في القانون والعلوم الاقتصادية، ثم جنّد في الجيش الفرنسي برتبة رقيب، وبعدها عاد إلى الجزائر حاملا شهادة جامعية”. وُظّف الشهيد في ورشات الصناعة الجوية بالدار البيضاء كمحاسب بداية من 28 أوت 1939، ثم جُنّد خلال الحرب العالمية الثانية وأُرسل إلى تونس، أين بقي إلى غاية جوان 1940، ليعود مرّة أخرى إلى منصبه.
وتذكر مصادر تاريخية أنّ عيسات إيدير كان خلال العشر سنوات التي قضاها في الورشات، محل تقدير كبير من قبل الإدارة والمواطنين، ومنحته الإدارة العامة شهادة شرفية عام 1949، بمناسبة الذكرى العاشرة لإنشاء الورشات، كما قدّم إيدير خدمات لشباب المنطقة عن طريق مساعدتهم في الحصول على وظائف في الورشات، لكن بعد اكتشاف أمر المنظمة الخاصة في 18 مارس 1950، عقب أحداث تبسة، قامت مصالح الأمن بعمليات بحث عن المناضلين الوطنيّين أسفرت عن اعتقال كثير منهم، واعتقلت إدارة الاحتلال إلى غاية 31 مارس 1950، 155 شخصا.
وتشير مصادر أخرى إلى اعتقال أكثر من 500 مناضل، وقد طالت عملية التوقيف عمّال الورشات ومن بينهم عيسات إيدير. غير أنّ بعض الكتابات تتحدّث عن أنّ توقيف عيسات إيدير رفقة شقيقه حسان، مع عدد من النقابيّين الآخرين كان على إثر الإضراب الطويل الذي قاموا به سنة 1951، وأفرج عنه بعد مضي عشرة أيام. وتم تسريحه، لكنه لم يعد إلى وظيفته الأولى، وإنما اشتغل في صندوق التعويض للبناء والأشغال العمومية. كما شارك عيسات إيدير في لجان شباب بلوزداد رفقة أحمد مهساس، ومحمد أعراب ومحمد بلوزداد وآخرين، كمتطوّع ما بين عامي 1943 و1945، كما شارك بعد ذلك في تحرير جرائد مثل جريدة “الأمة الجزائرية” عام 1946، ثم كلف بكتابة عمود البروليتاريا الجزائرية في جريدة “الجزائر الحرة”، خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1949 و1954.

العمّال..جبهة واحدة

 كلّف عبان رمضان، عيسات إيدير بالتحضير لتنظيم العمال الجزائريّين في إطار مركزية وطنية هي الاتحاد العام للعمال الجزائريّين، وعقدت أول جمعية تأسيسية لها في 24 فيفري 1956، وقد ارتكز برنامجه على نقطتين أساسيّتين هما أولوية تنظيم العمال الفلاحين، فقد كان الشهيد يسعى إلى تفادي ردود الفعل الفرنسية العنيفة. وأمر الوالي كولافيري بتوقيف عيسات إيدير و250 مسؤولا نقابيّا ليلة 23 إلى 24 ماي 1956. وحسب شهادة عبد المجيد عزي، فإنّ إجراءات السّجن طالت كل النقابيّين سواء كانوا منتمين إلى الحركة الوطنية الجزائرية أو جبهة التحرير الوطني أو الحزب الشيوعي الجزائري، وقد أرسلوا برقية احتجاج إلى رئيس الحكومة الفرنسية في باريس آنذاك، نشرت في العدد الثالث من جريدة العامل الجزائري بتاريخ 8 جوان 1956، تضمّنت الحالة غير القانونية واللاّإنسانية وظروف حجز بمعتقل البرواقية المحاط بالأسلاك الشائكة، وانعدام شروط النظافة والتجهيزات الصّحية وقلّة المياه الشروب، ووجبات غذائية غير كافية، واكتظاظ في الحجرات، حيث يتراوح أعمار المعتقلين ما بين 16 و80 سنة، من بينهم مرضى، لكن دون رد.
كلّف مركز الاستخبارات العملياتية مديرية الأمن الإقليمي بالبحث عن عيسات إيدير، المدعو أمقران، بين المعسكرات وعُثر عليه في معسكر بوسوي، ونُقل إلى وهران للتحقيق المعمّق أين تعرض للتعذيب..نٌقل بعدها على متن طائرة عسكرية إلى مقر مديرية الأمن الإقليمي في العاصمة، وخضع للاستنطاق بتاريخ 26 فيفري، حيث استُعملت ضدّه كل وسائل التعذيب.

محاكمة بتهم باطلة

 يشير الباحث مدور إلى أنّه في سبتمبر 1958، أُخذ عيسات إيدير مرة أخرى من بوسوي إلى سجن برباروس، من أجل محاكمته في جانفي 1959 بالمحكمة الدائمة للقوات المسلحة للجزائر، وكانت التهم الموجهة إلى مناضلي الاتحاد العام للعمال الجزائريّين المساس بأمن الدولة وتكوين جماعة الأشرار، وطالت إيدير جرّاء نشاطه سنتي 1955 و1956، وكان ردّ عيسات إيدير أثناء المحاكمة أنه كيف يشارك في مداولات المجلس الوطني للثورة الجزائرية وقد حُرم من حريته منذ ماي 1956، وقال: “ناضلت من أجل تنظيم دفاع العمال في إطار قانوني منذ أكثر من 15سنة، لكن وجدنا جدارا منيعا وهو الذي وضعته الإدارة...إنّ نتيجة هذه السياسة الفقر والبطالة وفلاحين بدون أرض والتمييز العنصري، والأمية..سيدي الرّئيس، نحن نقابيّون ولم يسبق أن اعتبرنا أنفسنا خارجين عن القانون..نطالب بحق العيش وأن نكون أناسا بأتم معنى الكلمة وليس عبيدا خاضعين ومهمّشين في بلدنا..الاتهام الوحيد ضدي هو إنشاء مركزية نقابية”.
كان قرار المحكمة البراءة، لكن بمجرد خروجه من سجن برباروس اختطف من طرف المظليّين الذين سلّموه للأشخاص المكلفين بالتعذيب في مركز بيرطرارية ضواحي العاصمة، وقامت بافتراء كذبة قيامه بمحاولة الانتحار. وبتاريخ 17 جانفي 1959، حول عيسات إيدير إلى المستشفى العسكري للعاصمة، وقد وُجد محروقا بالكامل في عدة مناطق من جسده، وأكّد محاميه كاريغاز، أنه لم يحاول أبدا الانتحار، ليكذّب ادعاءات فرنسا أنه قام بإضرام النار في أغطية فراشه، من أجل الانتحار. وتشير مصادر إلى أنه لم يتلق العناية اللازمة طيلة فترة الستة أشهر التي قضاها بمستشفى مايو، وكان من المفروض نقله للعلاج في فرنسا بمستشفى متخصّص في الحروق إلى غاية 26 جويلية 1959، تاريخ ارتقائه إلى الملإ الأعلى ونيل الشهادة الغالية.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19707

العدد 19707

الأحد 23 فيفري 2025
العدد 19706

العدد 19706

السبت 22 فيفري 2025
العدد 19705

العدد 19705

الخميس 20 فيفري 2025
العدد 19704

العدد 19704

الأربعاء 19 فيفري 2025