الذكرى الـ54 لتأميم المحروقات..الجزائر المنتصرة على العهد سائـرة
من السّيادة الطاقوية إلى الإستقلال الإقتصادي..مسار الإنتصار..
ترسيخ رؤية جديدة للشراكة الاقتصادية تقوم على مبدأ “رابح-رابح”
تحيي الجزائر اليوم، 24 فيفري، الذكرى المزدوجة لتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريّين وتأميم المحروقات، وهي محطة تاريخية تكتسي أبعادًا تتجاوز الإطار الاحتفالي إلى قراءة معمّقة لمسار السيادة الاقتصادية الذي انتهجته الجزائر منذ 1971.
تأتي هذه الذكرى 54، في سياق داخلي ودولي خاص، حيث تعمل الجزائر على تعزيز استقلالها الاقتصادي والطاقوي في مواجهة التحديات العالمية، وهو امتداد طبيعي لحركة التحرّر الوطني التي لم تنتهِ عند الاستقلال السياسي، بل تواصلت مع فرض السيادة الوطنية على الموارد والثروات الطبيعية. وتتزامن الذكرى مع تنامي دور الجزائر في تكريس الأمن الطاقوي العالمي، من خلال ضمان تدفّق الإمدادات نحو شركائها وفق القواعد التجارية الدولية بعيدا عن التجاذبات أو الاستقطابات الحاصلة، ومن خلال استراتيجية واعدة لإنتاج الطاقة النظيفة (الهيدروجين الأخضر).
وأقرّ رئيس الجمهورية، منذ 2020، برنامجا خاصا، يقوم على تشجيع إنتاج الطاقة الأحفورية والطاقات المتجدّدة واستهداف التصدير في هذا المجال، وفقا لالتزامه 20..هذا التوجّه بدأ يؤتي ثماره، حيث استعادت شركة “سونطراك” توازناتها المالية، وتمكّنت من إبرام صفقات ضخمة مع شركات دولية في مجال الاستشكاف والاستغلال.
وتستعد الجزائر لاستقطاب استثمارات دولية كبرى في مجال المحروقات، عبر إطلاق المناقصة الدولية “ألجيريا بيد راوند 2024”، والتي تم تمديدها إلى غاية جوان المقبل، وذلك لفائدة 20 شركة عالمية مؤهّلة مسبقا. وتسير الجزائر بخطى ثابتة لتعزيز أمنها الطاقوي والحفاظ على حصصها في الأسواق الدولية، مع رفع تلك المتعلقة بالغاز، وذلك وفق رؤية شاملة تتعلّق بالتأكيد على استقلالها الاقتصادي، حيث تتبنى نهجًا واضحًا في مراجعة الشراكات الاقتصادية غير العادلة، كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي الذي اعترف بعدم عدالة اتفاق الشراكة الموقّع مع الجزائر منذ 2005.
وبعد سنوات من عدم التوازن في التبادلات التجارية، وجدت الجزائر نفسها في موقع تفاوضي قوي، حيث دفعت بشركائها الأوروبيّين إلى الجلوس مجدّدًا على طاولة الحوار لإعادة النظر في الاتفاق بما يضمن مصالحها الوطنية، خاصة فيما يتعلّق بتسويق المنتجات الفلاحية والصناعية في أحد أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم. ويعكس هذا التحول بوضوح أنّ الجزائر لم تعد كما كانت سابقًا، بل أصبحت لاعبًا اقتصاديًا إقليميا يفرض شروطه وفق رؤيته التنموية، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التبعية التي كرّستها بعض الاتفاقيات السابقة.
مسـار لا رجعة فيـه
وفي سياق متّصل، يوضّح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الدكتور بوحاتم مصطفى، في تصريح لـ “الشّعب”، أنّ ذكرى تأميم المحروقات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، حيث شكّل قرار الرئيس الراحل هواري بومدين في 24 فيفري 1971، والذي قضى بتأميم المحروقات ومصالح الشركات الفرنسية مثل “ألف إيراب”، “ألف أكيتان”، و«توتال”، لحظة فاصلة في تاريخ استعادة الجزائر سيادتها الاقتصادية. ولم يكن هذا القرار مجرّد خطوة منفردة، بل تحول إلى نموذج ألهم دولًا أخرى لاسترجاع سيادتها على مواردها الطبيعية.
وتواصل الجزائر اليوم المسار ذاته، مدركة أنّ استقلالها الحقيقي لا يكتمل إلاّ بالتحكم في مقدراتها الاقتصادية ورفض أي شكل من أشكال الهيمنة، خاصة تلك التي تتخذ طابعًا اقتصاديًا للضغط السياسي. وفي هذا الإطار، لا يمكن إغفال الأبعاد الاقتصادية للخلاف الجزائري الفرنسي الحالي، حيث فقدت فرنسا مكانتها كشريك اقتصادي أوّل للجزائر، وهو ما دفعها إلى تبني سياسات غير متوازنة في المنطقة، من بينها دعمها لما تصفه بهتانا بـ “الحكم الذاتي” في الصّحراء الغربية، في محاولة للتأثير على الموقف الجزائري، غير أنّ الجزائر التي تدرك أهمية تنويع شراكتها الاقتصادية، لم ترضخ لهذه المناورات، بل توجّهت نحو تحالفات جديدة أكثر انسجامًا مع مصالحها الوطنية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، استثمارها في منجم “غارا جبيلات”، أحد أكبر مناجم خام الحديد في العالم، بالشراكة مع الصينيّين وهو مشروع يمتد إلى تطوير شبكة سكك حديدية بطول يفوق 920 كلم، وواضح أنّ القرار يحمل دلالة واضحة على أنّ الجزائر تبحث عن شراكات قائمة على المصالح المتبادلة، وليس على منطق التبعية الذي عفا عليه الزمن.
ويضيف بوحاتم أنّ السياسة الجزائرية لا تتوقف عند تعزيز استقلالها الاقتصادي على المستوى الوطني فقط، بل تمتد إلى القارة الإفريقية، حيث تلعب الجزائر دورًا محوريًا في تعزيز مفهوم “إفريقيا أوّلًا”، وهو توجّه يقوم على ضمان استفادة الأفارقة من ثرواتهم الطبيعية في إطار تنموي شامل، بعيدًا عن الاستغلال التقليدي من قبل القوى الخارجية.
ويؤكّد الدكتور بوحاتم أنّ الجزائر، من خلال تحركاتها داخل الاتحاد الإفريقي، تعمل على ترسيخ رؤية جديدة للشراكة الاقتصادية، تقوم على مبدأ “رابح - رابح”، حيث تسعى إلى تطوير استثمارات مستدامة، مع رفض أي تدخلات أجنبية غير مبرّرة، خاصة العسكرية منها، والتي أثبتت التجربة أنها لا تؤدي إلّا إلى تعميق الأزمات وإعاقة التنمية. كما أنّ استعادة السيادة الاقتصادية لا تقتصر فقط على حماية الموارد الوطنية، بل تشمل أيضًا تعزيز مكانة الجزائر في محيطها الإقليمي والدولي كدولة قادرة على فرض شروطها في المعادلات الاقتصادية الكبرى. فكما نجحت الجزائر في فرض مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فإنها اليوم تسعى إلى بناء تكتلات اقتصادية إفريقية قادرة على كسر هيمنة القوى الكبرى على مقدرات القارة.