رفض التّدخّلات الخارجـيــة ومنطـيييـق القـوّة فـي العلاقــات الدوليــة
رسالـة واضحة بأنّ صـوت القضيــة الفلسطينيـة سيظـل حاضـرا في المنابــر الدوليـة
تشكّل رئاسة الجزائر لمجلس الأمن الدولي خلال شهر جانفي الحالي تحديا حقيقيا للدبلوماسية الجزائرية، والتي تمكّنت من تحويل مبادئها الراسخة إلى ممارسات عملية على أعلى مستويات في صنع القرار الدولي، حيث برزت الجزائر كفاعل مؤثّر ووسيط موثوق، استطاع أن يترك بصمة واضحة في معالجة عدد من القضايا الدولية الملتهبة، متجاوزة بذلك الأدوار التقليدية التي غالبًا ما تقتصر على إدارة الجلسات وتنسيق الأجندة، كما كانت هذه الرئاسة تجسيدًا لرؤية الجزائر العميقة القائمة على تعزيز الحلول السلمية، واحترام سيادة الدول، ورفض التدخلات الخارجية ومنطق القوة في العلاقات الدولية.
القارّة الأفريقية، أكّدت الجزائر مرة أخرى موقعها الريادي، مستثمرة إرثها التاريخي والدبلوماسي لدفع القضايا الإقليمية إلى طاولة النقاش الدولي.
القضية الليبية كانت أبرز مثال على ذلك، حيث استطاعت الجزائر تحقيق إنجاز دبلوماسي غير مسبوق بانتزاع موافقة مجلس الأمن على إعادة استثمار الأصول الليبية المجمدة، هذا القرار لم يكن مجرد خطوة اقتصادية، بل كان تعبيرًا عن توجه سياسي يسعى لحماية حقوق الشعب الليبي، وتعزيز سيادة ليبيا على مواردها، كما أنّ الدور الجزائري في هذا الملف تجاوز الحدود الاقتصادية ليشمل الدفع نحو حل سياسي ليبي - ليبي شامل، بعيدًا عن التدخلات الأجنبية التي لطالما أسهمت في تعقيد الأزمة، ويعكس هذا الموقف التزام الجزائر بمبادئ السيادة الوطنية وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
القضية الفلسطينية، التي تشكّل عنصرًا دائمًا في أولويات الجزائر، احتلت مكانة هي الأخرى بارزة خلال هذه الرئاسة، حيث لم تكتف الجزائر بالدعوات التقليدية لدعم الشعب الفلسطيني، بل بادرت بتفعيل النقاش حول الجرائم المرتكبة ضد الأطفال في غزة. هذا الاجتماع، الذي عقد بطلب من الجزائر، كان رسالة واضحة بأنّ صوت القضية الفلسطينية سيظل حاضرًا في المنابر الدولية، وأن الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني ليس مجرد شعار، بل التزام عملي تتبناه الجزائر. علاوة على ذلك، برزت الجزائر كمدافع قوي عن وكالة “الأونروا”، التي تواجه تهديدات خطيرة بسبب السياسات الصهيونية الرامية إلى تقويض دورها الإنساني، ويؤكّد هذا الالتزام أن الدبلوماسية الجزائرية ليست مجرد رد فعل للأحداث، بل استراتيجية متكاملة تهدف إلى حماية حقوق الشعوب المستضعفة.
وفي اليمن وسوريا، أثبتت الجزائر مرّة أخرى أنها تمتلك رؤية متكاملة لمعالجة الأزمات الإقليمية. ففي الوقت الذي تعاني فيه هاتان الدولتان من ويلات الصراعات الداخلية، دعت الجزائر إلى احترام سيادة الدول وإيجاد حلول سياسية شاملة. هذا الموقف، الذي ينبع من تجربة الجزائر الطويلة في تجاوز تحديات داخلية عبر الحوار الوطني، يعكس فهمًا عميقًا لتعقيدات الأزمات الإقليمية، ويؤكّد قدرة الجزائر على نقل خبرتها إلى الساحة الدولية.
أمّا على الصّعيد الدولي، فقد لعبت الجزائر دورًا متوازنًا في التعاطي مع الأزمة الروسية الأوكرانية، ففي ظل انقسامات دولية حادة برزت الجزائر كصوت معتدل يدعو إلى التهدئة وضبط النفس. فيما ركّزت الجزائر على حماية المدنيين والامتثال للقانون الدولي، مع الدعوة إلى حل سياسي شامل يأخذ بعين الاعتبار المخاوف الأمنية لكافة الأطراف، ويعكس هذا النهج المتوازن قدرة الجزائر على تقديم حلول وسطية في أزمات تهيمن عليها الاستقطابات الحادة.
إضافة إلى ذلك، سجّلت الجزائر إنجازًا مهمًا في مجال مكافحة الإرهاب عبر اعتماد “مبادئ الجزائر” المتعلقة بتمويل الإرهاب باستخدام التكنولوجيات الحديثة، وتمثّل هذه المبادئ إطارًا دوليًا جديدًا يهدف إلى مواجهة التحديات الأمنية المعاصرة، مع الحفاظ على التوازن بين الابتكار التكنولوجي ومتطلبات الأمن الدولي، ويؤكّد هذا الإنجاز قدرة الجزائر على تحويل رؤيتها الأمنية إلى إجراءات عملية تتبنّاها المنظومة الدولية.
رئاسة الجزائر لمجلس الأمن لم تتميّز فقط بحجم الإنجازات التي حقّقتها، بل بالطريقة الحكيمة والمتقنة التي تعاملت بها مع الملفات الدولية المعقدة، فقد جسّدت الدبلوماسية الجزائرية توازنًا فريدًا بين البراغماتية الراشدة والتمسك الصّارم بالمبادئ، لتبرهن على قدرتها في التأثير على مسار النقاشات الأممية، سواء عبر ترسيخ الحوار كآلية مثلى لحل النّزاعات، أو من خلال دفاعها المستميت عن قضايا الشعوب المستضعفة، ولم تكن هذه الرئاسة مجرد منصة لإبراز مكانة الجزائر الدولية، بل كانت شهادة على دورها الريادي كوسيط موثوق يسهم بفاعلية في تعزيز الأمن والسلام، ليس فقط ضمن فضائها الإقليمي، بل على امتداد الساحة الدولية.