المرحوم الدكتور سعيد عيادي شرّح التنظيم العملياتي والعسكري بالولاية الرابعة

هــكــذا خــاض أشـــاوس جيــــش التحريـــر الوطنــــي معركـــــــة دوار السيـــــــــــوف

بقلم: الدكتور سعيد عيادي

 

تنطوي الأحداث التي سبقت والتي تلت معركة دوار السيوف - تازة ترولار الشهيرة أفريل سنة 1958م، على عبر دلالات ودروس عسكرية وأمنية وجغرافية كثيرة، وتتنوّع هذه الدلالات بحسب المعطيات السياسية والعسكرية والأمنية لتلك الفترة، ويمكن تحديدها على عدّة مستويات، فمعطيات التوقيت والتجنيد ونوع الفرق المشاركة والمكان والتخطيط للاشتباك والانسحاب، كلّها معطيات تسمح لنا اليوم بمقاربتها مقاربة علمية وتقنية من أجل الوقوف على كامل المعطيات المتعلّقة بالتنظيم العملياتي للعمل المسلّح الذي قادته فرق وأفواج المجاهدين بالولاية الرابعة، فالمعركة اتخذت من دوارين متجاورين رحى المواجهة العسكرية المسلّحة بين الطرفين.



معركة دوار السيوف - تازة ترولار، جرت ميدانيا في المنطقة الثالثة من الولاية الرابعة، وهذه الناحية كما نعرف إلى جانب حيويتها العسكرية والأمنية، كانت ممرّا للعبور والتنقّل، خاصّة أنّها تربط الخط مباشرة بمنطقة أغريب بالولاية الثالثة، ولذلك أعطت قيادة الولاية الرابعة أهمية خاصّة لهذه المنطقة، حيث وفّرت لها قيادات عسكرية متميّزة كان من بينهم الشهيد سي امحمد رايس من جليدة، عمر رمضان، بشير رويس، سليمان الغول، كومندو سي جمال، وذلك بما يتماشى مع الأهداف العسكرية والسياسية التي ضبطتها القيادات العليا في الجبهة وجيش التحرير، وقد تولّى احسن بومالي التطرق بالتفصيل إلى مختلف جوانب هذه الاستراتيجية عسكريا وسياسيا وأمنيا، وكانت تتوفر على عناصر متمكّنة وخبيرة في العمل الاستعلاماتي وفي تقنيات الربط والاتصال، من أبرزهم سي البغدادي، الشهيد أحمد عليلي (استشهد يوم 28 أوت 1958م وكان من المشاركين في معركة دار السيوف والذي كان أول نقيب سياسي. عسكري بالمنطقة الثالثة الونشريس – زكار، وكان يحيط إحاطة وافية بمعطيات المنطقة لكونه من مواليد دوار بني غمريان - المخاطرية حاليا)، الملازم مختار، الدكتور بكير كدي، لوصيف جندل، وقد عمل في المنطقة الثالثة من الولاية الرابعة منذ التحاقه بصفوف الثورة يوم 03-01-1956 إلى غاية 1962م، وقام خلالها بعدّة مهام جليلة، كما لا ننسى هنا الإشارة إلى أنّ الشهيدة نسيبة مالكي المعروفة باسم شفيقة، كانت قد سقطت في ميدان الشرف سنة 1959م في المنطقة الثالثة من الولاية الرابعة وكان عمرها آنذاك 19 سنة، وما إلى ذلك من المجاهدين والشهداء البواسل.
الـــســـيـــاق الـــعـــســـكـــري والـــســـيـــاسي لمـــعـــركـــة
دوار الـــســـيـــــــوف
 العملية العسكرية التي تضمّنتها معركة دوار السيوف في أفريل 1958م، كانت من حيث الأبعاد السياسية والتنظيمية والحركية، استجابة للتحوّلات والمواقف الإيجابية التي عبّرت عنها القيادات السامية للجبهة ولجيش التحرير الوطني، فقد أشار فرحات عباس في كتابه “تشريح حرب”، إلى أنّ التفكير في إنشاء قيادة العمليات العسكرية قد تمخّض مباشرة بعد إعلان الثورة سنة 1954م، ثم عرفت هذه القيادات أنّ تشكيل هذه القيادة أمر لا مفرّ منه، وعليه فقد بادر كريم بلقاسم يوم 10-04-1958 بالدعوة إلى تكريس الفكرة على أرض الواقع.
لاقت دعوة كريم بلقاسم استجابة فورية وتوافقا سياسيا وعسكريا، حيث قامت لجنة التنسيق والتنفيذ في إطار تجسيد الفكرة بترقية مجموعة الضباط السامين إلى رتبة عقداء، وكان من الذين استفادوا من هذه الترقية محمد العموري، عمار بوقلاز، سي الحواس، عميروش، مصطفى بن عودة ، هواري بومدين، علي كافي، وفي ضوء ذلك تم تكليف أغلبهم بمناصب قيادية عليا على مستوى الولايات، تقوم على صلاحيات ومهام في إطار قيادة العمليات العسكرية (COM) شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا.
ويرجّح محمد حربي رأيا آخرا قائلا أنّ ميلاد وانتشار فكرة قيادة العمليات العسكرية كان بفضل تلك المقاربات الجريئة التي قدّمها الثلاثي: أحمد بن بلة ومحمد بوضياف وعلي محساس مع مطلع سنة 1956م ، ولم يشر إطلاقا إلى كريم بلقاسم، ويذهب في ذلك عكس مذهب فرحات عباس، والواقع أنّه لا يهمنا كثيرا من هو أو من هم أصحاب هذه الفكرة، بقدر ما وددنا أن نشير إلى أنّ العمل العسكري في الجزائر قد تنظم كثيرا وشهد عمليات وكمائن عسكرية نوعية وعلى مستوى عال من الدقّة.
كانت الولاية الرابعة من أكثر الولايات التي شهدت مواجهات عنيفة بين المجاهدين ومختلف المفارز العسكرية الفرنسية المتمركزة في العديد من محاورها، وعلى رأس ذلك البليدة وخميس مليانة وشرشال وقوراية، حيث وبالإضافة إلى التواجد المكثف لأحسن عناصر الفيلق الفرنسي الثالث للمظليين (3eme R.P.M.I.A)، والمتحرك باستمرار عبر مختلف مناطق ونواحي هذه الولاية، كانت كذلك تشهد وجودا مكثفا لوحدات قتالية فرنسية أخرى لا تقلّ شراسة وتنكيلا من هذا الفيلق، وهي مدربة تدريبا عسكريا يتكيف فيها تدخلها للقتال في المدن وفي المناطق الجبلية، بحسب تضاريس هذه الولاية، وبحسب تنوّع سلاسلها الجبلية وأراضيها ، ومن بين هذه الفيالق الأخرى الفيلق 29 للقناصة، والعناصر المنتمية إليه، هي على نفس وتيرة استعداد الفيلق الأول، وقد كانت وحدة هذا الفيلق تضم 850 عنصرا مقاتلا من النخبة المدربة والمسلحة، بمن فيهم المجنّدين الأجانب، وكان من بين نخبة هذه المجموعة المقاتلة كثير من العملاء الذي انضمّوا إليه ويعرفون المنطقة معرفة جيدة، وسبق للفيلق ولهم، خوض معارك ومواجهات عديدة في كلّ المناطق الأربعة التي تضمّها الولاية الرابعة، وهي على التوالي المنطقة الأولى وتضمّ مدينة باليسترو – الأخضرية حاليا وضواحيها، أما المنطقة الثانية فتشمل البليدة بكاملها، والمنطقة الثالثة تضمّ الخط الممتد من جبال الونشريس إلى جبال زكار.
كما كانت هذه الولاية تعرف تواجدا كثيفا لأحسن عناصر النخبة المقاتلة التي يتشكل منها الفيلق الخاص بالعقيد شارل بيجار والذي كان يسمّى الكومندو الأسود للمظليين، والذي أعطى لنفسه تصوّرا مرعبا ومخيفا لدى السكان، ويوجد في سجله العديد من الهجمات والاشتباكات مع مجاهدي هذه الولاية، وقد سبق لعناصر هذا الفيلق الإجرامي الدخول في اشتباكات عنيفة من عناصر كومندو سي الزوبير التابع لكتيبة الحمدانية، استشهد سي الزوبير (الشهيد الطيب سليمان محمد ) في دوار سباغنيية يوم 22-02-1957، في اشتباك مع عناصر هذا الفيلق الأسود..
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ القوات الفرنسية شاركت في كثير من معارك الولاية الرابعة باستخدام كل أنواع الطائرات التي يتوفر عليها أسطولها العسكري الجوي، وبما كانت قد هيأته وبنته من مطارات عسكرية ومن منصات الانطلاق الكثيرة الخاصّة بطائرات الهيليكوبتر أو الطائرات المستخدمة في الاستعلامات والتجسّس عن طريق الجو، فلم تكن تخلو معركة من المعارك التي تدخلها باستخدامها لأسراب متنوّعة من طائرات هذا الأسطول، وهو ما جعل قيادة المجاهدين تضع في حسبانها - عند تخطيطها لعملياتها العسكرية - وجود مثل هذا الغطاء العسكري الجوي المستعدّ للتدخل الفوري.
ارتفاع العمليات العسكرية خلق هاجسا لدى القيادة العسكرية الفرنسية التي صارت تميل إلى حسم معاركها عن طريق الجو، وتفادي المواجهات البرية، بالنظر إلى تنوّع الغطاء التضاريسي بالولاية. الشيء الذي جعل الطرفين ينظران إلى الغطاء الجوي نظرتين مختلفين ضمن إستراتيجية المواجهة، فما تتوجّس منه القيادة الفرنسية تحبّذه القيادة الجزائرية، وما تراه من عامل حاسم للمعركة لدى الطرف الفرنسي، يعتبره الطرف الجزائري فضاء إضافيا للمناورة وللكرّ والفرّ الذي ينهك هذه القوات الفرنسية ميدانيا، وسرعان ما نمت عقيدة الهاجس العسكري الجوي للقوات الفرنسية مع مرور سنوات الثورة، فاتساعها وامتدادها صار يفرض تكاليف كبيرة وإنفاقا متواصلا على القوات البرية التي لم تعد قادرة على تغطية كلّ المساحات، وقد ركّز الباحث الإنجليزي هورن آليستار (Horne Alistair) على خلفيات نشوء هذه العقيدة الجديدة وطبيعة المتاعب التي ألحقتها بالقيادة الفرنسية، والتي كانت وراء ارتفاع اعتمادات الحرب في الجزائر.
المــــعـــطـــيات المـــيـــدانـــيـــة الأوّلـــيـــة عـــن الــــدواريـــــن
هكذا أخذت معركة دوار السيوف لاحقا اسم الدوارين معا، دار السيوف من جهة وتازة ترولار من ناحية، وفي يومنا هذا أطلق على المنطقة التي تضمّ هذين الدوارين، اسم برج الأمير عبد القادر، وكانت المسؤولية المباشرة على هذه المعركة تقع على كاهل سي العربي، قائد الكتيبة ومسؤول منطقة ثنية الحد، من بداية التدبير لها وحتى البدء في الانسحاب من ساحتها بعد منتصف الليل، ولهذا بادر قائد الكتيبة سي العربي من البداية بالتفكير في كيفيات توفير خطوط التموين وخطوط الاتصال وقواعد الامتداد والانسحاب، لكون أنّ هذه الجماعات المسلّحة تحظى برعاية دقيقة وموسّعة من قبل قيادة الفيلق الثالث للمظليين الفرنسيين، ولهذا قررت قيادة الولاية الرابعة توفير ذلك باستعجال من خلال خط تكتيكي حيوي يربط مباشرة بين خميس مليانة وثنية الحد.
هذا الخط يمرّ بمحاذاة قرية الجنرال قورو، وتم أخذ كلّ الاحتياطات الإضافية في حال مواجهة أو وجود صعوبات في جعل هذا الخط آمنا ومؤمنا للمجاهدين وللوسائل المختلفة التي ستستخدم في هذه المعركة الحاسمة، فالمواجهة العملياتية كانت من الناحية العملية قد بدأت في حدود على السادسة مساءً، واستمرّت إلى غاية الانتهاء منها في حدود منتصف الليل، وقد أسفرت عن إلحاق خسائر كبيرة بقوّات وجماعات محمد بلونيس، لكن مع ذلك، لم يحقّق الهدف الأساسي الذي سطّرته قيادة الولاية الرابعة لهذه المعركة، وهو تحييد أو إلقاء القبض على قيادة الجنرال محمد بلونيس التي أقامت مركزها تلك الليلة بهذين الدوارين، وعلى رأسهم الدموي الكبير المقدّم سليمان بوحمارة.
لعلّ من أكبر الاحتمالات التي كانت قيادة الولاية الرابعة تتمنّى عدم وقوعها في هذه المعركة بالذات، فقد كانت تريد تكسير العمق الحركي والقتالي في جماعات الجنرال محمد بلونيس، وشلّ كلّ خطوطهم الخلفية وجيوب الإمداد البشرية والعسكرية، فالخطة كانت تقضي بشنّ هجومات مباغتة عنيفة وكثيفة لا تسمح باسترجاع الأنفاس ولا بمراجعة المواقع، مع العمل على غلق محكم لكل المنافذ التي بالإمكان أن تستخدم للفرار أو الانسحاب أو الفلتان من القبضة التطويقية لمختلف الأفواج والفروع المكلّفة بذلك.
كانت الخطة تقضي بقطع خطوط الإمداد الخلفية، خاصّة من بعض الدواوير القريبة من ميدان المعركة، مع الاجتهاد قدر الإمكان بشل خطوط الاتصالات بقيادة المظليين تفاديا لأيّ هجوم جوي يفسد الخطة من الأساس، وتمكّنت القيادة العسكرية الحكيمة للمعركة من تحقيق كلّ ما رسمته تكتيكيا، ولكن من دون أن تصل في النهاية إلى الرؤوس القيادية للجنرال محمد بلونيس والمتواجدة بميدان المعركة؛ لهذا عمّت علامات الحسرة والقلق على وجوه قادة الكتيبة المكلّفة بهذا الهجوم على الخصوص، وبقية أفرادها المقاتلين، نتيجة عدم التوصّل في نهاية المعركة وبعد مواجهة حامية وفت بكلّ وعودها، واستمرّت ستّ ساعات كاملة، إلى إلقاء القبض على قيادات جماعات الجنرال محمد بلونيس المسلحة، أو تحييدهم وإنهاء خطورتهم الميدانية تقريبا من ولاية عين الدفلى وإلى غاية مدينة آفلو، فالاحتمال التكتيكي لنهايات المعركة غير المرغوب فيها، ستوجّه اهتمامات القيادة إلى اعتماد تقنيات جديدة في الاتصال والتجنيد والتنقل والتمركز والنشاط ضمن الخطوط التي سبق وأن عرفت بعض الخلل في تحقيق الأهداف، والقيادة نفسها تشعر أنّ أيّ تباطؤ بسيط في تنفيذ الإجراءات التكتيكية المتفق عليها قبل بدء الهجوم، قد تكون من أسباب عدم الوصول إلى تطويق قيادة الجنرال محمد بلونيس في مخابئها.
أخـــــطــــــاء أوّلـــــيـــــة في تــكـــتــيـــكــات الــــــتــــمــــوقــــع
ممّا برز للقيادة من أخطاء تكتيكية في هذا الشأن، هي المسافة التي كانت تفصل بين المرشد المدني الذي يملك كلّ المعلومات الميدانية عن العدوّ، وبين قائد كتيبة المجاهدين، فالمرشد المدني كان يسبق قائد الكتيبة نحو الأمام بمسافة تقدّر بحوالي 60 متر، وهذا التقدّم جعل قائد الكتيبة يقع في غفلة عن تقدير المسافات وتحيين المواقع، وهو الأمر الذي جعل المرشد المدني يبتعد بقائد الكتيبة وبقية الجنود عن المواقع المستهدفة بحوالي 100 متر كاملة ، ما يعني - في التقدير العسكري الميداني - إعطاء فرصة للعدوّ لإيجاد حلول للخروج من الطوق وتحقيق انسحابات وحماية قيادته من القتل أو الأسر، لأنّه لم يكن هو الطرف الذي بادر بالتخطيط للمعركة وتدبير هذا الهجوم، وهو ما حصل في النهاية بالفعل.
جانب تحديد مسافات التحرّك والتموقع وتحديد المخابئ والأماكن الحيوية في هذه المعركة، كان مؤثرا وحاسما كما رأينا في هذا المثال، كان طرفا في هذه المشكلة، أما الطرف الآخر منها فيتعلّق بمستوى التنسيق والتواصل قبل وأثناء المعركة بين مختلف الأفواج والفروع المشاركة، وكذلك مستوى تنسيقها كفروع مقاتلة برئيس فرع المسبلين ومن بينهم الشخص الذي عيّنوه مرشدا مدنيا يتحرّك بجانب قائد الكتيبة في كامل المنطقة التي شهدت مختلف أطوار المعركة.
أما الإطار الثالث لهذا التنسيق، فهو يخصّ هذه الأطراف – بالدرجة نفسها من المسؤولية - بقائد الكتيبة؛ لأنّ التنسيق بين هؤلاء جميعا يؤدّي حتما إلى تحديد أعداد العدو قيادة وجنودا، وتحديد تجهيزاته وعتاده وتموقعه ومدّة إقامته وخطوط تحرّكه ومستوى التأمين فيها وإمكانياته الاتصالية وقدرته الردعية ودرجة الاستعداد لديه في الصمود أثناء المواجهة المسلّحة ونوع الأسلحة التي يحملها، فالحقيقة تؤكّد أنّ العمل التنسيقي كشف عن المواقع والأماكن بدقّة كبيرة ومتناهية، لكن عملية التطويق وغلق المنافذ منيت بالفشل، ما سمح لقيادة جماعة بلونيس بالإفلات، وبقاء الجنود وسط المعركة يواجهون مصيرهم المحتوم.
المجتمعون في ناحية ثنية الحد والقائمون على تقدير وتقييم سير المعركة، كانوا قد اتفقوا بالأغلبية، أنّ نجاة المقدّم سليمان بوحمارة من الموت أو الأسر، يلزم جميع القادة التكثيف من الاتصالات وتفعيل دور المخبرين السريين من أجل التسريع بوضع خطة للانتهاء منه بكلّ الوسائل والطرق الممكنة عسكرية أو غير عسكرية، فاستمراره حيا نشطا وقائدا لجماعات مسلّحة، مشكلة عويصة بالنسبة لقيادة الولاية الرابعة، وبدا لها أنّ التخطيط المسبق لهذه المعركة لم يعط لأحد عواملها الهامة والحاسمة ثقلا:
ميدان المعركة مكشوف أمنيا، ذلك أنّ القيادة لا تتوفر هناك على ضباط ربط واتصال ولا على مسبلين ولا مخبرين سريين، ممّا يجعل العملية محفوفة ببعض المشاكل ذات الطابع الاتصالي، وهو ما رأته القيادة قد حصل بالفعل، وهو التصوّر بأنّه كان ممكنا، وكان من جوانب إغفال أهمية هذا العامل، أنّ العملية تم الشروع فيها دون أن تبادر قيادة الكتيبة بتنظيم اجتماع تنسيقي قبل البدء بالهجوم، يجمع كلّ جنود الكتيبة المبرمجين للقتال، وكلّ قادة الفروع القتالية وكلّ قادة الأفواج، بمن فيهم قائد فرع المسبّلين، حتى يكونوا على علم مسبق بتفاصيل خطة العملية والهجوم المرتقب.
كان من الضروري، كذلك، احترام إجراءات وضوابط التنظيم العملياتي، وذلك بإشراك المرشد المدني الذي سيرافق قائد الكتيبة، خلال هذا الاجتماع وإتاحة الفرصة له لتقديم تقرير مفصّل أمام جميع الحاضرين، يشرح فيه كلّ تفاصيل المعطيات الخاصّة بالدوار وبالجماعة المسلّحة المتواجدة به بقيادة المقدّم سليمان بوحمارة، وتحديد الأماكن والمخابئ التي يتواجدون بها بدقّة كبيرة، لتكون هدفا رئيسيا أثناء الهجوم، بغلق منافذها وتطويقها ومنع من بداخلها من الإفلات، ولو حصل مثل هذا الاجتماع التقني والعسكري قبل المعركة، لكان بالإمكان أن يحسمها حسما نافذا بإحداث تطويق قاتل لن ينال النجاة منه أيّ جندي من جنود فرقة بوحمارة، ومن الأمور التي كان بالإمكان أن تحقّق هذا النصر الكاسح ما يلي:

^ 1 تمكّن القيادة من ضبط وتحديد جميع المسافات التي تفصل بين مخابئ هؤلاء الجنود من مركز الدوار.
^ 2 بناءً على تحديد هذه المسافات، كان بالإمكان تحديد جميع التموقعات الاستراتيجية للمجاهدين، التي ستسمح لهم بالهجوم على هؤلاء الجنود في مخابئهم بعملية عسكرية مباغتة لا تبقي منهم أحدا ولا تذر لهم فرصة للفرار.
^ 3 كان يجب إحداث توزيع موقعي - كمائني للمجاهدين، مناسب للانقضاض على المنسحبين والفارين من رحى المعركة، ويكون هذا التوزيع مرتبطا بتحديد صارم لساعة البدء بالهجوم، حيث عليهم الانطلاق في الهجوم وفق توقيت واحد ومن كلّ الجهات، وباستعمال كلّ الأسلحة المبرمجة.
^ 4 كان من الضروري، أمنيا، التأكّد مسبقا من حالة وطبيعة تواجد الكلاب بالدوار، والخطأ المرتكب هنا أنّه وعلى الرغم من عدم وجود محافظين سياسيين به، وعلى الرغم من عدم وجود مخبرين سريين، تم برمجة الهجوم دون أخذ الاحتياطات، إذ كان من الضروري قتل كلّ الكلاب، وهذا الإجراء لم يتم التنبيه عليه ولا تنفيذه، فقد حال نباح الكلاب دون إكمال التطويق بنجاح، وانتبه جنود الجنرال محمد بلونيس إلى أنّ الأمر يتعلق بوجود هجوم للمجاهدين، فتمكّن البعض منهم من إيجاد ثغرات كثيرة للانسحاب من أرض المعركة، وهكذا نجت قيادتهم من حصار كان سيقضي عليهم جميعا.
ظـــروف الانـــســـحـــاب في بـــيـــئــــة غـــير مـــغـــطّـــاة أمـــنـــيـــــا:
حالات الخلل التي حصلت في هذه المعركة، أثرت بدورها في التوقيت الخاصّ بالانسحاب بعد انتهاء المعركة، خاصّة بعد نجاة القيادة من الأسر والقتل، وإمكانية استغلال انفلاتها من ميدان المعركة للاتصال ببلونيس وبقية جنوده، أو الاتصال بقيادة المظليين الفرنسيين، وطلب النجدة الميدانية والتغطية الجوية، ممّا يمكن أن يؤدّي إلى إلحاق ضربات فورية بالمجاهدين، إنّ جزءا من هذه التوقعات قد حصلت أيضا، فقد طلب قائد الكتيبة سي العربي، من جنوده الانسحاب فورا وبسرعة كبيرة ودون توقّف، ورسم خطّ الانسحاب بالاتجاه نحو جبال عمرونة.
الانسحاب بهذه الطريقة، سبّب متاعب ومشاكل صحية لبعض المجاهدين، فقد ظلّوا ينسحبون بسرعة مشيا على الأقدام على مسافة كيلومتر ونيف، وابتعدوا حدّ المسافة الذي يؤمّن لهم الحماية من الضربات المرتدة في جنح الليل، وبعد استراحة قليلة، طلب قائد الكتيبة من جنوده التهيؤ من جديد لمواصلة الانسحاب والاجتهاد للوصول إلى مطماطة بمنطقة زمورة، وهي من ضواحي جبال عمرونة قبل الساعة الخامسة فجرا، وهو ما يعني - من الناحية الإستراتيجية - الاقتراب إلى التأمين الكامل للمجموعة بالدخول نهائيا إلى ناحية ثنية الحد، حيث توجد قيادة المنطقة تحت إمرة سي بوشوشي، وهي مسافة تتطلّب انسحابا سريعا بالنظر إلى الزمن المتبقّي للسير ليلا، وبالنظر إلى المتاعب الكبيرة التي تعاني منها المجموعة قبل وأثناء وبعد المعركة، والإسراع كذلك بإيصال الجرحى إلى العيادات المتواجدة بمنطقة ثنية الحد وتوفير الرعاية الصحية اللازمة لهم.
لهذا، فإنّ الانسحاب الناجح والوصول بسلام إلى ناحية ثنية الحد، عجّل في اليوم الموالي بالوصول وعقد اجتماع طارئ بين القيادة التي خاضت المعركة، وبعض القيادات التي كانت في انتظارهم هناك، ومن أبرز القيادات التي شاركت في الاجتماع لتقييم هذه العملية العسكرية، قائد منطقة ثنية الحد سي بوشوشي والمقدّم سي عبد الرحمن مقلاتي، من قصر البخاري والنقيب سي عبد الرحمن حمودة شايد، وكلاهما ينشطان في الولاية السادسة.
الاجتماع كان لتقدير الانعكاسات الأمنية والعسكرية لفترة ما بعد المعركة، والإجراءات الاستثنائية والقمعية التي ستبادر قيادة المظليين باتخاذها بحثا عن شرفها الضائع، بعد هذه العملية التي نجح المجاهدون من خلالها في شلّ جزء مهم من مخطط المسح المتعامد المتجانس شمال جنوب، وأتاحوا لأنفسهم فرصة إعادة الانتشار في هذه المناطق الحسّاسة التي تمثل ممرّا حيويا بين الشمال والجنوب، لقطع الصلات بين الولايات.
وصل الجميع إلى مطماطة في حدود الخامسة فجرا، وتأكّدوا بأنفسهم أنّ قيادات محمد بلونيس المنهزمة قد قامت فعلا بالاتصال طالبة النجدة، فتحرك الطيران الحربي الفرنسي وبدأ بقصف المناطق “المشبوهة” قصفا عنيفا، وبدأت قواته والجماعات المسلحة لبلونيس بتمشيط المنطقة، وكانوا في طريقهم ينكّلون بالأهالي وينتقمون منهم ويعبثون بممتلكاتهم وخيراتهم، ووصل قصف الطيران حتى منطقة ثنية الحد، وتبين الجميع من طبيعة ردّ الفعل العنيف للجماعات المنهزمة، واعتبرت قيادة المظليين الفرنسيين أنّ ما حصل هو اختراق فعلي لأساسات هذا الخط وضرب قويّ لإستراتيجيتها القائمة خلق جيوب فاصلة ومتينة القطع بين المناطق، بناءً على خط المسح المتعامد المتجانس الذي أقامته تقريبا من عين الدفلى وحتى مدينة آفلو بين الأغواط وتيارت.
بعد العودة من المعركة، وتأمين انسحاب جميع من شاركوا فيها قبل بزوغ الفجر، استعجل قائد الكتيبة سي العربي الذي كان بدوره منهكا وخائر القوى لكونه كان يحمل رشاشا ألمانيا ثقيلا (42) MG)، استحضار عناصر السلك الطبي المتواجدين بالقرب منهم لمعاينة الإصابات الموجودة في وسط المجاهدين، وكان سبب استعجال قائد الكتيبة يرجع أساسا إلى كون أنّ العيادة الجهوية للمجاهدين التي كان سيقصدها بهذه الناحية، قد طوّقتها ألسنة النيران، وأتت على كثير من أجهزتها ووسائلها الطبية والصيدلانية.
كان القائد يخشى أن يكون مصير جرحى هذه المعركة، كمثل مصير جرحى ناحية منطقة زكار ومعسكر في السنة السابقة، الذين انتبه العدو إلى مكان تواجدهم للعلاج، فطوّقهم وحاصرهم، وتمكّن من قتل من شاء منهم، وأسر من شاء أن يأسر منهم، فكان العقيد سي حسان (يوسف الخطيب) من العقداء الأطباء الذي التحقوا فور سماعهم النداء الاستعجالي، بعناصر وأفراد الكتيبة المشاركة في المعركة، بعد انسحابهم واستقرارهم في ناحية ثنية الحد منهوكي القوى، بعد قتال عنيف ومسيرة ليلية طويلة.
كما كانت هناك مؤشرات على الميدان تدفعه للبحث عن التحصين والتمويه، فالعدو بدأ باستخدام كثيف لطائرات الاستطلاع المعروفة باسم لامورال (Lamoral)، لتحديد مواقع الانسحاب والتمركز الجديدة، وهي طائرات مقلقة، كان المجاهدون والشعب الجزائري يطلقون عليها اسم لاموشار (La Mouchard)، وكانت طائرات مقنبلة على غرار طائرات سيورسكي (Sikorsky)، قد وصلت بقصفها العشوائي والاستفزازي للمناطق “المشبوهة” إلى حدود ناحية ثنية الحد.
هـــاجـــس الـــبـــحـــث عـــن بوحــمـــارة ومـــســـاعـــديــــــه
 هذه الحالة العسكرية والأمنية الجديدة الناجمة عن مجريات المعركة وحوادثها، عدّتها القيادة خللا تقنيا في التنظيم العملياتي لإدارة معركة على مستوى عال من الدقّة والخطورة والأثر الميداني، فهي في نظرها ستخلق صعوبات عسكرية وأمنية لاحقة في طريقة ونوع الاتصالات، وفي تحرّكات الجنود، وفي تمركزهم، وحتى فيما يتعلق بأسلوب التجنيد وتفعيل العمل الفدائي بين المسبلين والجنود، حيث أنّ عدد الإصابات الكبير في صفوف جنودها بين قتيل وجريح، بالإضافة إلى أعداد الأسرى التي وقعت بين أيدي مجاهدي الكتيبة وقطع الأسلحة التي تم الاستيلاء عليها، من دون القضاء على القيادة، هو بحدّ ذاته يشكّل مشكلة تكتيكية وعسكرية.
المشكلة هذه تكمن في كونها ستجرّ القيادة الدموية لجماعات محمد بلونيس تحت إمرة سليمان بوحمارة إلى شنّ عمليات انتقام وإبادة كبيرة وشنيعة بمساعدة وتدعيم تقني ومادي من قبل المظليين الفرنسيين، وسيدفع الأهالي الفقراء وسكان القرى والدواوير والمداشر، والذين سيكونون جميعا مصدر شكّ وتصفية حسابات، ثمن رعونة هذه القيادة ووحشيتها ، والتي هي ناجمة عن شعورها الدفين بأثر الهزيمة المرة وغير المتوقعة، حيث شاهدوا بأعينهم كيف ألحقت بهم كتيبة سي العربي ضربات في العمق، ورأوا جنودهم يتهاوون قتلى أو يقعون أسارى.
على هذا الأساس وضع المجاهدون خطط تعبئة نفسية للسكان، خاصّة سكان الدواوير والمشاتي، حتى لا يقعوا في شبكات الدعاية النفسية المغرضة التي سيتعرّضون لها لاحقا بعد الانتقام منهم وترويعهم لقطع حبل الصلة بينهم وبين الكفاح التحرّري، وجعلهم يشعرون بمسؤولية كبيرة تجاه صولة وعنف قوات الاستعمار الفرنسي وعلى رأسهم الفيلق الثالث للمظليين الفرنسيين الرابض فوق صدورهم.
نجاة هذه القيادة وفرارها المبكّر من المعركة وحرصها على العودة إلى ميدان المواجهة العسكرية من جديد، سيجعل من العمل الاستعلاماتي بين الطرفين يمضي - هذه المرّة - على أشدّه، خاصّة من جانب عناصر جيش التحرير الوطني، لأنّ عملها الاستعلاماتي يرمي إلى حماية المواطنين والسكان من حملات الانتقام والنكاية بالمستضعفين، ويرمي - من ناحية أخرى - إلى تأمين تحرّكات وتنقّلات المجاهدين عبر مثل هذه الخطوط التي تشهد تواجدا مكثّفا للقوّات الفرنسية وعملائها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024