آخر مقال للمرحوم الدكتور محمد العربي الزبيري بـ «الشعب»

نتـــف مــن تجربـة ما زالـت تلاحقني

المجاهد الدكتور محمد العربي الزبيري

 إنّ المكانة التي تتبوّأها الشعوب في كتب التاريخ لا ترجع إلى القيمة الذاتية لتلك الشعوب، وتعلّقها بأرضها، وحبّها لوطنها، وشموخها بأنفها، واعتزازها بنفسها، ومدى شجاعتها، وعدالة قوانينها، بقدر ما تتوقف على فصاحتها في الإبانة عن نفسها. فالمؤرخون مضطرون إلى الاعتماد على الوثائق الموروثة. وإذا كانت الشعوب لم تسجل أحداثها، وبقيت خرساء، بكماء، فالتاريخ سيبقى أخرس أبكم، ساكتا عنها، لا يدرجها في سجلاته، أو يعمد إلى ملء ذلك الفراغ الذي يسترعي الانتباه، باستعمال الشهادات الناقصة والمجحفة، المزورة بالضرورة والتي تتمثل في الكتابات الرديئة التي يدلي بها ويتركها جيران أو أعداء ثرثارون.

 تلكم هي حالنا في الجزائر؛ لأنّ تاريخنا - في جميع حقبه - لم يعالج وفقا للمنهجية العلمية، بل إن مدرسة التاريخ الاستعمارية قد لجأت إلى جميع الحيل لإفراغه من محتواه حتى يتسنى تقديم الإنسان الجزائري في صورة العاجز عن الإسهام في تطوير الحضارة الإنسانية، وتصوير بلاده بأقبح الصور التي تحمل في طياتها مبررات الاحتلال والاستبداد.
لقد كان وضع الجزائر خلال تلك الحقبة التاريخية، أسوأ من وضع كل الشعوب التي تعرضت للسيطرة الاستعمارية، لأجل ذلك، فإن الذي يرجع إلى تاريخها بجميع مراحله يجد أنه كاد يفرغ، كلية من محتواه الإيجابي، وأنه تم تكييفه بحيث لا يكون قادرا على تحفيز المواطنين واستنهاضهم، ودفعهم في اتجاه العمل على الخروج من دائرة التخلف.
لقد توقفت عند هذه الفقرات، مليا، عندما طلب مني الإخوان في جريدة «الشعب» أن أكتب بعض الأسطر، أعبّر من خلالها عن تجربتي مع الطاقم الأول الذي رافق قرار الإنشاء، وتابع الظروف الصعبة التي أحاطت بالموضوع. ولكي أكون وفيا فيما أقدّمه للقرّاء الأكرمين رجعت إلى «الانترنت»، فوجدت كلاما مبعثرا للتعريف بجريدة «الشعب». تمنيت أن تخصّص مكانة مرموقة لصاحب الفكرة الذي هو العظيم محمد خيضر، الذي لم يكن هو رئيس المكتب السياسي ولكنه كان عضوه المكلف بالإعلام والمالية.
كان محمد خيضر صاحب تجربة نضالية مميزة، ابتدأها بتأسيس حزب وطني سنة 1930، جمع فيه عددا من الشباب المدركين لضرورة العمل من أجل استرجاع السيادة الوطنية، وعندما قرّر الحاج مصالي دخول نجم شمال إفريقيا إلى الجزائر، حلّ محمد خيضر حزبه والتحق مسؤولا في صفوف النجم. ولما تحوّل النجم إلى «حزب الشعب الجزائري»، فإن محمد خيضر هو الذي أسندت له مهمة الإشراف على تنصيب قسماته وخلاياه. وبتلكم الصفة، قرر إصدار جريدة وطنية أسماها «الشعب» واختار الأديب الشاعر «مفدي زكرياء» كرئيس تحرير لها، وكلف المناضل المثقف «محمد قنانش» بالإشراف على الشؤون الإدارية.
تضمّن العدد الأول من تلك الجريدة موضوعات مناهضة للاحتلال جعلت السلطات الاستعمارية تقرّر منعها من الصدور، لكن صورتها ظلت ماثلة في مخيلة مديرها، الأمر الذي جعله عندما تكلف بالإعلام والمالية في المكتب السياسي الذي أعلن عن ميلاده في اليوم الثاني والعشرين يوليو سنة 1962، يكلّف الأخ المناضل «صالح الونشي» ببعث جريدة  -Chaab Al باللغة الفرنسية فصدر عددها الأول يوم 19 سبتمبر 1962، ثم سافر إلى القاهرة يلتمس مساعدة الرئيس جمال عبد الناصر الذي أمر، حينها، بتخصيص مطبعة وبتعيين تقنييها وكلف الصحافي البارع «لطفي الخولي» بالتوجيه الإعلامي.
صدر العدد التجريبي الأول في السادس عشر نوفمبر تحت إشراف المغفور له «محمد الميلي» رئيس التحرير والقائم بمهام المدير. ومحمد هو ابن الشيخ «مبارك الميلي» المسؤول البارز في جمعية العلماء المسلمين، ومتبني الشيخ «البشير الإبراهيمي» الذي لا يحتاج إلى تعريف.
أعود إلى موضوع الجريدة وأشير إلى أن مقرها الأول كان مع «الشعب» باللغة الفرنسية في المقر الذي كان لجريدة l’Echo d’Alger  في شارع الحرية اليوم رقم 20. وكان عدد الصحافيين قلة ما زلت أذكر منهم «محمد بالعيد» سكرتير التحرير والمرحوم «الهاشمي قدوري» وكلا من «عثمان شبوب» و»زينب الميلي» و»سيدي أحمد علي غزالي»، وأقدم كل اعتذاراتي للذين لم أذكر أسماءهم. وواصلنا إصدار الأعداد التجريبية إلى أن تقرّر بعث العدد الأول يوم الحادي عشر ديسمبر 1962، إحياءً لذكرى الانتفاضة الشعبية التي كانت إيذانا بانطلاق المرحلة الثالثة من مراحل ثورة نوفمبر العظيمة.
ولا بأس أن أذكر بالمرحلتين، الأولى وهي مرحلة نشر الوعي في أوساط الجماهير الشعبية، والثانية وهي مرحلة إنشاء المناطق الحرة لضمان التسليح والتموين، والثالثة وهي مرحلة تعبئة الجماهير الشعبية وتنظيمها في مظاهرات واسعة وفقا لبرنامج جبهة التحرير الوطني.
إذن انطلقنا وصدرت الجريدة في شكلها المعروف اليوم، وكنا قلة قليلة، لكننا كنا مسكونين بإرادة التحدي. كنّا نقوم بالتحرير في النهار وعندما تغرب الشمس ننزل إلى حيث المطابع نرقب التقنيّين ونتعاون معهم لحل ما قد يحدث من مشاكل. ومرّت الأشهر الأولى علينا وكأنّنا في عرس حتى كان ما كان، وهنا أتوقّف لكي لا أدخل القرّاء الكرام في متاهات نحن جميعا في غنى عنها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19585

العدد 19585

الأربعاء 02 أكتوير 2024
العدد 19584

العدد 19584

الثلاثاء 01 أكتوير 2024
العدد 19583

العدد 19583

الإثنين 30 سبتمبر 2024
العدد 19582

العدد 19582

الأحد 29 سبتمبر 2024