خديجة طاهر عباس..إعلامية روّضت القلم ليستوعب طموحاتها وأحلامها. خطت الكلمات برُقيٍّ وشجاعة بعيدا عن الحسابات الضيقة وأنانية المصالح الشخصية. إعلامية نقلت على صفحات جريدة “الشعب” منذ التحاقها بها مطلع التسعينيات، الحقيقة بلا مزايدات ولا تحريف، فكان تفانيها وإتقانها وأسلوبها السّهل الممتنع، سببا في تحوّلها إلى قلم مؤثّر وبصمة متفرّدة، وبعد أربعة عقود خاضت فيها المعترك الإعلامي، تترجّل خديجة تسلّم الروح إلى بارئها راضية مرضية.
كانت خديجة واحدة من القامات الإعلامية التي بهرتني - عند التحاقي بالجريدة - بقوّة حضورها، والكاريزما التي تملكها. عرفتها قلما يطوع الكلمات ليصوغها في جمل تصنع الفارق في صناعة الخبر، ما جعلها - بالنسبة لصحفية مبتدئة مثلي في تلك الفترة - مثالا يحتذى، وقدوة لكل من يبحث عن المعادلة الصعبة في تحقيق الذات والتفرد في الإعلام.
تفاني خديجة وصدقها وتميّزها، فرض على الجميع احترامها، وتقديري لها واحترامي الشديد لقلمها، جعلني أتمنى دائما التعرف عليها عن قرب، لأعايش الإنسان داخلها، فكونها تنتمي إلى جيل الصحفيات اللواتي التحقن بالجريدة بعد جيل زهور ونيسي وزينب الميلي، أعطاها وسلوى روابحية مكانة خاصة بالجريدة، فكانتا رمزا للمرأة القوية المؤمنة بقدراتها في كسر محدودية نظرة المجتمع “القاصرة” للمرأة.
في 2017 وبمناسبة اليوم الوطني للصحافة الموافق لـ 22 أكتوبر، اخترت أن أكتب “بورتريه” للإعلامية خديجة طاهر عباس في صفحة “القوّة النّاعمة” التي كنت أعدّها، اتّصلت بها فلم ترفض طلبي بل دعتني إلى منزلها لإجراء المقابلة، فقد ارتأت أن نلتقي كأخوات لا كزميلات، وبالفعل التقيت بها بعد سنوات من التحاقها بالتلفزيون الجزائري. المدهش أنها لم تتغير، فـ “خديجة” التي عرفتها قبل ما يقارب عقدين من الزمن، هي نفسها أمامي مبتسمة، رائعة ومتواضعة.
هذا اللقاء حقّق حلمي في التعرف على خديجة الإنسان، وجعلني أعجب بها أكثر؛ لأنها فتحت قلبها لي وقلّبت أمامي صفحات كتاب عنوانه “خديجة طاهر عباس”، ومن فصل إلى آخر من فصول حياتها، تعرّفت إلى خديجة الطفلة ثم المراهقة ثم الإعلامية، تشرفت بلمس تفاصيل ذكرياتها التي جعلت منها القدوة والمثال الذي تمنيت في يوم من الأيام أن أكون مثله.
ومن صفحة إلى أخرى، تكشّفت أمامي تفاصيل رحلتها الإنسانية عبر مراحل حياتها المختلفة، لأتأكّد أنّها امرأة من معدن أصيل آمنت بالجزائر أمّا ووطنا، فكما لم يهزمها زلزال الأصنام في 1980 عن المضي في تحقيق حلمها بالرغم من انتقالها إلى العاصمة وهي في عمر الـ 15 سنة، لاستكمال دراستها الثانوية، لم يفلح الإرهاب الهمجي في التسعينيات من لجم قلمها عن الكتابة أو كسر إرادتها في أن تكون إعلامية، فكانت قلما جريئا قويا وحادا، وبصمة مؤثرة في مرحلة صعبة من تاريخ الجزائر.
خديجة طاهر عباس..الطاهرة..كينونة إعلامية استطاعت أن تتجاوز عقدة “تاء التأنيث”، وتثبت أن القلم بين أنامل ناعمة لامرأة قوية أشد وطأة من سلاح الترهيب والموت، استطاعت أن تعطي صورة واضحة عن الجيل الأول للجزائر المستقلة، فلم يثن عزيمتها الخراب الذي تركه الاستعمار بعد طرده ذليلا من أرض الأحرار، بل رسخت وبنات جيلها من النساء حقيقة أنهن حرائر من ظهر الأحرار.
ترحل اليوم خديجة لتلتحق بأخيها المتوفي في 2008، والذي طالما اعتبرت وفاته منعرجا مهما في حياتها، بل غيّر رحيله بصورة جذرية نظرتها إلى الحياة، فكانت محنة فقد الأخ نقطة تحول مهمة في مسيرتها، وكانت تجربة فارقة بالنسبة لها، خاصة وأنه توفي بعد صراع مع المرض، هذه “المحنة” - كما وصفتها - أعطتني صورة واضحة عن إنسانيتها وحبها وإخلاصها، ما زاد إعجابي بها وترسيخ احترامي لها.
نودع اليوم خديجة بعد أن وصل قطار حياتها إلى محطته الأخيرة، نزلت خديجة الجسد لتبقى روحها بيننا وأثرها الطيب وكتاباتها حاضرة بين صفحات جريدة لا تتنكّر لأبنائها، وبعد أن ودّعنا فنيدس بن بلة السنة الماضية، نعزّي أنفسنا في فقد خديجة اليوم..لتتجسّد أمامنا دورة حياة تتعاقب فيها الأجيال لصناعة غد أفضل.