الوطنُ اسمٌ للسماء، وهو الحياة، بكلّ حمولتها لأبنائه، على اختلافهم ومقارباتهم، ويظلّ جميلاً على كلّ حال. أما الأكثر جَمالاً فهم أولئك البشر الأمميّون الذين يعيدون للإنسانية مضمونها الفوّاح الصافي والنبيل، لتظلّ أرضاً للأمل والتقارب والاطمئنان.
فما أجملكِ يا عائشة! وأنت تؤصّلين في الوجدان البشريّ لباء الطين بسماوات لا نهائية، وأحلام لا تقتل أصحابها الطيّبين.
كرنفال السنابل في بيتا حلّ قبل الحصاد. تفتحتِ السنابلُ، وانثال الحَبُّ على المصطبة، وامتلأت الخوابي، فاستيقظ الأجداد الأوّلون، بقاماتهم المنصوبة، يحملون مناجلهم المصقولة، ووقفوا مرصوفين حول الكرنفال، إنّهم يحرسون سبيكة إلهية من ذَهَب السماء اسمها عائشة.
لقد رأوها! صعدت من وسط البيدر، ويبدو أنّ رافعةً لا تُرى تعلو به فوق كومة التِبْر المذرور فيها من ملامحهم ما يتوّجه هالةً من خلائقهم، وراحت تشقّ طريقها نحو شباك النُّور، فأوسعوا لها الطريق، وهم شاخصون بخطواتها التي تَعالت إلى أن حطّت على أوّل الكوّة، فَفرَدَت ذراعيها.. وساحَت في السطوع.
لعائشة جُرأةُ الموسيقى، وفي صوتها شرايينُ الشهداء ودمع الجُلنّار الحزين، وفي ناظريها مقاصل الليل التي أودت بِغزّة وجنين ونور شمس. فهل أغرتكِ الصفحةُ البيضاء، يا عائشة؟
لعلكَ تريدين أن تنبسط أمامك دون حرائق ومذابح وحواجز وأسوار عنصرية، وبلا مقابر جماعية أو إبادة للأقواس والساحات.
لعلكِ أردتِ من البَطل الذي نما فيك أن ينتهي من مهمّته الخُرافية، ليبدأ زمن الفراديس على هذه الصفحة المدمّاة، لترجع امرأةٌ فلسطينية تشبهكِ، بشراً عاديّاً يأكل العكّوب، وينام على فَوحَان الكستناء، ولا يبهظه طول الانشغال بأولئك الضحايا الذين يتكاثرون، كُلّما رفع الحاخام قُبَّعَته فوق طوفان الجثث التي أُتْخِم بها.
ولعلكِ أردتِ أن تتخلّصي من شظايا الزجاج المطحون الذي يسمّم صدركَ، لكثرة ما دفعوك إلى كراهية الأموات، وهم يدورون كالأشباح بين البيوت، ليأخذوا رضيعاً من ضلوع الصوف.
ولعلكِ مَلَلْتِ قتال الشائهين، الذين ضاق بهم البرّ والبحر، ومنعونا من الوصول إلى مدائننا البيضاء. ونريد أن نستريح تحت عريشة الضحى دون ضجيج.
ولعلكِ لم تكملي سيناريو ما بعد الحرية، لأنّهم غرزوا في ظهرك رُمح الغَدْر، وأعشوا عينيك بِمُسيلات العار، وانكشفوا أمامكَ كما هُم، تماماً، وحوشاً بشفرات شائخة تخثّر فوقها دمُ الطير البريء.
وحال المدائن من حال بلابلها وشنّارها وعصافيرها.. باختصار، البلاد تشبه طيورها، فإذا جنّحت كما شاءت، وبَنَتْ أعشاشها على أهوائها، وغرّدت على أفنانها، وضمّت زغَبها في الوكنات، رغم مزاج الفصولِ، فهذا يعني أنّ أكتاف الأزقة تعبق بالنرجس، وأنّ الحوش تجلّله الجدّات بالحكاية المستحيلهَ، وأنّ الراعي يعود وهو يلوّح للذئاب باللقاء، وأنّ النجمة ستجد طريقها الخفيّ إلى صدر الكمّثرى، وأنّ المرايا تعمّ بالسِحر وطيّات العرق، وأنّ الحنين سيصل إلى نداءات المساطيح، لترقص أعراف الحصان، ويضرب بحافره الكهرماني أرض العيد. فَيَا أيّها الذيّال! تناسخ نيازك في غلالات اللانهاية المُشرعة، لتصحو الشهيدة من دمها، وتعود ثانيةً إلى أهلها الذين قدّموا لنا ماسةً، برقت في عجاج قريتنا، ولمعت، قبل أن تخمدها رصاصات الجنون الوحشيّ.
يدقُّ عِرقُ الرّقبة، وتستنفَر بيتا قواها المُعطّلة، وتلفّ ألف مرّة حول الكوكب؛ لتجد طريقةً ترشدها لإخفاء الشجرة والرسالة! كانت أضواء الدوريات تتفشّى، والكشّافات تجعلُ الهزيع حريقاً مدوّياً، والجنود بأثوابهم الحديدية كالدببة يطوّقون البلدة، وعلى البوابات قَبضَاتٌ ونداءٌ وصَخب وضوضاء!
والجنود يدخلون بلا هدى، وينتشرون في الغُرف والمطبخ والصالة والشُرفة، يفتّشون كلّ شيء ويقلبون كلّ قائم ونائم. ولن يجدوا شيئاً!
لقد انتظرتك بيتا يا عائشة، حتى يكون لها رمزها “الضمير” واسمها الجديد الصوفيّ الذي أدرك قوّةَ الحرف، وقدرةَ الروح لبلوغ الكشف
وإنّ الدم الناقع، الذي ما زال ينزّ من رأس عائشة هو الذي سيدلّ الناس على القاتل. لكن الدنيا ما فتئت تنكر عليها قيامتها، فبكى كل الشهداء في التراب.
وتستيقظ عائشةُ من نومها ريّانة راضية. تتثاءب بكسل ماتع، وتكدّ ضفائرها المبلّلة بالطلّ الأحمر والمسك، وتتحسّس احتكاك الرّعد بالقرنفل، وتتأكّد أنّ أثر الرصاصة قد ترك وَشْماً عابقاً بالكحل. وتنهض عائشة لأحفاد أُمّها، تعدّهم للصباح والدّرْس، وفي بالها قصّةٌ، لن يصدّقها سوى غائب لن يعود.
الثورة إحساس فرديٌ بالقهر. هكذا تبدأ، لكنّها تتواصل بالتقاء المقهورين، ليشكّلوا جداراً صلداً محيطاً، من صوّان الإرادة، ليصدّ غوائل الحثيّات، التي أيقظها مصاصُ الدماء بعصا الوَهْم والعُقَد المبتذلة، ودفعها لتخترق الحجارة الملتحمة بالأرض والسماء، وناطحها لينفذ منها إلى أمْسِه المُلَفَق الهجين.
وما زال الغريب الساكن في البارحة، يسوّق صورته، التي حزّ فيها رقبته بسكّينته الوثنية، ويمرّر مشهده الخائب، وتنسى الدنيا الذبيحَ الأوّل الذي لوّن بدمه أقواس الآفاق. لكنّ العَمى لا يتيح لصاحبه إدراك النبع الحرام المتدفّق في شوارع كلّ قرية ومدينة. وفي ثوب كلّ حاملٍ، يسقط ملحُ الشريان على أسنان الحديد المدبّب، في ألف حاجز وليل.
إنّ هذا الجيل من طلبة الجامعات والشباب الذي جعل شوارع العالَم فلسطينية، هو الذي وقف بحزم واعٍ أمام كلّ الانحرافات الفكرية والسياسية والاجتماعية في موطنه. وإنّ تجربته التي كبُرت ونضجت مكّنته من حمل تجربةِ الحركة العالمية الملتزمة، والمتضامنة معنا، من أسوار الجامعات والمربّعات، إلى فضاء العالم، وإلى الشارع الفلسطيني، وجعلها حياةً يومية وهاجساً للناس! لهذا كلّه قام الاحتلال باغتيال رموز هذا الحراك، معنويا وجسديا، أو باستهدافه في بلده، ومنعه من دخول فلسطين التاريخية، من الشهيدة راشيل إلى عائشة، والذين جعلوا قائمة الشرف لا نهاية لها، وحتى ينتهي الاحتلال.
يا عائشة يا اسم العسل والنار والندى الذي انجبل فأصبح قوام المرأة، التي تصهل في صدرها الخيول، وتفحّ في ذراعيها الحمائم، وتتفجر الينابيع الجوفية من جدائلها.
يا عائشة! يا سرّ اللؤلؤة المختومة، التي أكملت ضوءها تحت عباءة الغيم وتفتحت نجوماً ذهبية في الحقول. يا عائشة! يا نداءنا في الدمع وجروحنا في الناي وشهوتنا في الجرار. يا أُوار الماء في الليل ويا نرجسة الفصول وموقدة الوجاق. يا عائشة! يا جرحنا المبذول للشتاء، حتى ترتوي الهامة والفرس. يا جرس البعيد وصورة الجدار وشال الحرير الذابح في غربة السنين، يا عائشة! يا حروف الجائح والثاكل، يا بيتنا المفتوح منذ قرن للزغاريد المقتولة ويا فرحتنا المرتقبة، ليعود المفتاح إلى البيارة والبحر. يا عائشة ! يا شجن الصوّان ويا نعاس الصبر الذي هدّه الحديد والغبار. يا انتظار المعجزة الأكيدة لنتحلّق حول أُمنا ثانية، وهي تخضّ القمر ونرتوي من حليب التين، ونشرق بدمِ الرمّان.
يا عائشة! يا زوغان المتضامن يهتف في الليل والصقيع والنسيان. يا حقيبة الصغار وتلاوين العيد وبراءة الرسائل المخبأة.. يا عائشة! يا مليون شاهد في كلّ اتجاه، ويا بوصلة واحدة للزيتون وثدي الأرض الأقرب إلى السماء. يا عائشة! يا رحماً يلد الجبال ويمور بالوديان ويذرعها بالظباء، ويصعد إلى التلال بفضّة الحصان المجنون. يا عائشة! يا أبجدية الذين سيعودون كاملين إلى الرواية، ليتجلّى النبيّ مرةً أخرى، بمنجله، ولا تعلو به الريح إلى الجُلجلة. يا عائشة! يا نوْمتنا المؤقتة لنصحو على العرس والمهرجان، وننعف الأرز على الزفّة المطهمة، والطفل يتراءى لنا في الحضور.
يا عائشة ! يا شجن الصوّان ويا نعاس الصبر الذي هدّه الحديد والغبار. يا انتظار المعجزة الأكيدة لنتحلّق حول أُمّنا ثانية، وهي تخضّ القمر ونرتوي من حليب التين، ونشرق بدمِ الرمّان.
شهيدة بيتا “عائشة نور إيزغي” التي ساحـَت في السطوع
بقلم : المتوكل طه
شوهد:208 مرة