مع الوضع المأساوي الذي بتنا نراه على الأسرى المفرج عنهم، من سحق لكل مكوّنات الروح الإنسانية، والاعتداء عليها بكل صنوف ما تنتجه هذه «العبقرية»، والتي كان آخرها معزز عبيات، وذلك بعد إنزال تطبيقات ابن غفير «العبقريّة» على السجون.
لو حاولنا نبش ما في «عبقريّة» هذا الابن غفير الذي جاء جدّه من أقصى بلاد كردستان العراق فأنجب لنا ولداً في القدس، حيث نشأ أبوه في بيئة متديّنة متعصّبة تتنكّر للأصل، وتتبنّى على ما بنت أفكارها المغلقة، لا تنتج إلا عنصرية مغلقة شديدة التطرّف والانفجار بجينات تفوق جينات «الحيوانات البشرية»! وتتيح لهم ازدراء وتعذيب وسحق هذه «الحيوانات» وكأنّ الله لم يخلق غيرهم، ولم يعد أرض الميعاد إلا لهم، الجنّة لهم، وكلّ المخلوقات قد خلقها الله لجحيمهم، ليفعلوا بها ما يحلو لهم.
معزّز عبيّات لم يأتنا من كردستان العراق، بل هو من صلب هذه الأرض، من سلالة عائلة عريقة يعود جدّها إلى كنعان، ولد مرابطاً في بيت المقدس، ونشأ وترعرع في كنف تربية متسامية متسامحة في بيئة مسلمة مسيحية تقوم على السماحة الدينية، وكلّ من فيها يحترم ديانة الآخر.
بيت لحم مدينة فلسطينية تجسّد هذه الروح، ولا وجود لروح عنصريّة سوداء بين الأديان التي تقطن هذه المدينة من قديم الزمان. منذ نشأة الأديان وحلولها في أرضنا ونحن على هذه التربية إلى أن جاء هؤلاء الغرابيب السود الذين أرداوا بعنصريّتهم أن يبسطوها ويفرضوها على الناس، فصار القتل والاعتقال والاضطهاد وسحق الآخر بقوّة السلاح هو الذي يتقنه هذا الاحتلال، وصار من تجليّاته العظيمة أن تولد وتتكاثر مثل هذه العبقريات!
ولدت «عبقريّة» ابن غفير في هذه البيئة المتعصّبة، ولم تعد لها أية صلة بأصله، ترعرعت في وسط كتلة شديدة العدوانية لا تنظر للحياة إلا بعيون تلموديّة عنصريّة تستبيح الأغيار، وتستحلّ دماءهم وأموالهم وأعراضهم، أمّا بقية التعاليم السماوية التي تحويها كتبهم من أخلاق وقيم روحية تسمو بالمشاعر الإنسانية (وهذه نحن لا ننكرها بل نعتبرها كتباً سماوية في الأصل، وهي من ذات المصدر لكتابنا القرآن الكريم)، ولكنهم حرفّوها عن مسارها، وجعلوها خاصّة لهم، وبقيّة البشر لا يستحقونها، لأنهم ما خلقهم الله إلا ليسخّرهم لخدمتهم.
معزّز عبيات مع تأثره بقيم السماحة الدينية، وحب الخير لعباد الله، إلّا أنه أيضاً رضع من هذه البيئة أنفةً وكبرياءً ورفضاً قاطعاً لظلم الاحتلال، لم يكن في هذه البيئة من السّهل أن يحوّلهم الاحتلال إلى قطيع أو حشرات أو فئران، كما تحلو لعبقرية ابن غفير، بل هي التي تحافظ على شهامة الرجال وصدق الانتماء لهذه الأرض وروح تأبى الذل والخنوع والهوان.
وقد يكون سرّ عدوان هذه «العبقريّة منقطعة النظير» هو الاغتياظ من هذا الاسم الذي حمله معزّز، هذه «العبقريّة» لا تريد للفلسطيني أن يكون إنسانا فكيف إذا كان إنسانا ومعزّزا، لا هذه كثيرة على أن تحتملها هذه العبقريّة، إنّها لا ترى الفلسطيني إلا مهاناً ممسوخاً مقرفاً مقزّزاً مخرباً، ليس له إلا أن يكون مسخّراً عندهم للأعمال التي تأباها نفوسهم ويكونوا مضطرين لذلك، أماّ أن يسمّى بهذا الاسم فهذه جريمة ما بعدها جريمة، الفلسطيني يسمّى معزّزاً وكريماً وناصراً وفادياً وسامياً وسلاماً وسالماً ومحمّداً ومحموداً .... إلخ ،
وصلت هذه «العبقرية» إلى تغيّير اسم الفلسطيني، مُحتلّاً مهاناً ذليلاً خاضعاً مسحوقاً بائساً مشتتاً لاجئاً مُستعمراً مُستحمراً.. إلخ.، برعت «عبقريته» في تصدير خطاب كراهية منقطع النظير، وعزّزت تجمعاً يعرف تماما وجهته في نفي كلّ شيء سوى ما عندها من تصوّرات عقائدية تتيح لها ممارسة الجريمة والسطو على كلّ من يخالف هذه التصوّرات، حتى داخل المجتمع اليهودي الذي يختلف معهم، ولو شيئاً قليلاً في تحديد الهوية العنصرية والوجهة العدوانيّة.
معزّز عبيات يأبى الانكسار فتهاجمه ما تتفتّق عنه عبقرية ابن غفير بكلّ ما لديها من جحافل الظلام، تعتقله، تسحق عظامه، يضعه ابن غفير في كيس ويغلق عليه، ويدوسه بأقدامه منتظرا لفظ أنفاسه، يبصق عليه، يفعل ما لم يفعله أحد من قبل، لا يثق ببساطير جنده، هو بنفسه يدعّس عليه ليخرج كلّ سموم حقده الممتدة، ويبقي الله نفس معزّز رغم أنف ابن غفير ليخرج ويروي الحكاية، العنصرية الصادمة لكل معاني الإنسانيّة الباسلة.
أبدعت هذه «العبقرية» ما يزيد عن 50 قضية جنائية وعدوانية قبل تقلّده وزارة رسمية في حكومة لا تقلّ عنه تطرفا إلا أنّ خطابها مختلف قليلا، وللسياسة كذلك عندهم شأن آخر حيث وجدت لآرائها المتطرّفة جمهوراً وحزباً يهوى تلك الروح المتطرّفة والتي نشأت في بيئة حزب «كاخ» القومي المتطرف الذي تزعَّمه الحاخام المتطرف مائير كاهانا، وولدت من رحم هذه الحركة المتطرفة والمسؤولة عن أعمال إرهابية كثيرة هنا وفي أمريكا.
أبدع معزّز بقيمه وأخلاقه العالية أن يكون صامداً مرابطاً رافع الرأس شامخاً، رياضيّاً ناجحاً وعاملاً في بلده مثابراً، صاحب مبدأ ثابت وفكرة وعقيدة، لا تغيب عنها القدس ثانية، يقف شمعة تحترق وسط ظلامهم، ويصر على منح الضوء مهما علت أدغال الظلام، يُعتقل المرّة تلو الأخرى، وفي كلّ مرّة تعود الروح أقوى في جسد لا يتغيّر أمام قهر السجن والسجّان، إلا المرّة الأخيرة وهو في عهدة ابن غفير تبقى الروح نابضة واللسان صادع بالحق بينما الجسد يكاد يهوي من شدّة القصف، كأبراج غزّة التي طالتها صواريخهم، ولكنّ أهلها متمسكون في ردمها والأرض التي تقف عليها.
لو كان في «عبقرية» ابن غفير هذه بقايا من أصله أو بقايا من أفكار دينية كما يزعم، ولها صلة بالسماء أو حتى بقايا مشاعر إنسانية يتمتع بها كلّ البشر لخاطبناه بها، ولكنه كما وصفهم القرآن:»وقالوا قلوبنا غلف»، أيّ أغلقت على ما هي عليه وأصبحت كتلة من السواد الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، لا شيء فيه إلا ماكينة لانتاج العذاب والويل والثبور، «للجويم» أو الاغيار. لذلك لن ينفع معه أي خطاب أو دعوة للعقل والاتزان، أو حتى للتفكير ومراجعة الحساب.
فقط ما نقوله أن الحياة دول بين الناس، وأن الذي يداولها بين الناس هو ربّ النّاس، ستدور عليهم الدائرة، ولن تبقى الحياة لمخرز الظلمة الجبناء. ستنتصر الاكفّ الطاهرة البيضاء، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
وما نقوله لمعزّز وكل أسرانا الأبطال، لن يترك الله أعمالكم، وصبركم، وجهادكم، واستمساككم بحقكم وقيمكم وروحكم العظيمة، أنتم بهذا العذاب تسارعون بهم إلى مزابل التاريخ، وأنتم بذلك تسطرون أعظم صفحات المجد في هذه الملحمة البطولية التي سيكتب عنها التاريخ كثيراً، أنتم في ذات الخندق الممتدّ من أنفاق غزة إلى هذه السراديب التي أقامها الاحتلال لخيرة هذا الشعب العظيم، وأمّة فيها أمثالكم حتماً ستنتصر بإذن الله.