أصبحت قضية التّشغيل بالعالم العربي بمثابة “عجلة من النار” على حد تعبير “شكسبير”، يدور داخل قطرها المشتعل أكثر من عشرين مليون عربي من الشباب والنساء العاطلين عن العمل، وهو ما نسبته 16٪ من الفئة النشيطة من سكان المنطقة العربية.
تجدر الاشارة إلى أنّ نسبة البطالة في العالم العربي توجد في أعلى مستوياتها في صفوف الشباب المتعلم وبالأخص حاملي الشهادات الجامعية منهم، ماعدا شهادات الدكتوره أو ما يعادلها، في حين أنّ البطالة بين الأميّين هي الأدنى في معظم البلدان العربية، وهذه من المفارقات الغريبة.
وصار من الصعب الحصول في العالم العربي على عمل لائق، والذي به تتجسّد تطلّعات الأفراد من خلال حياتهم المهنية، وتنجز آمالهم المعلّقة على الفرص والمداخيل والحقوق، وبه يتوفر الاستقرار العائلي والتطور الشخصي، ويتم الارتقاء بالعدالة والمساواة بين الجنسين، كما تتحقّق طموحاتهم في إيصال صوتهم والاعتراف بدورهم، ويخوّلهم تأمين قوت عائلاتهم وإرسال أولادهم إلى المدارس وكذلك النفاذ إلى الحماية الاجتماعية...
فالعمل الذي تمّ تصوّره كعنصر إنتاج (وسيلة في خدمة هدف، وهو الثروة)، في القرن الثامن عشر، صار ينظر إليه باعتباره “جوهر الانسان” فيما بعد.
فالعمل اللاّئق يعتبر مدماك الأمن والسلم والاستقرار داخل المجتمع، وهو ما أثبته لنا الربيع العربي الذي عرفته تونس ومصر وليبيا في سنة 2011، وموجات الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية ممّا اضطر عددا من الدول العربية مثل السعودية والبحرين تهره إلى وضع إجراءات عاجلة لتطويق الأزمة ومحاصرتها، وذلك عن طريق توفير آلاف مناصب الشغل بالقطاع العام خاصة، بفتح باب التوظيف الذي أغلقته لسنوات عديدة، واتخاذ قرارات لصالح الأسر الفقيرة والفئات المحرومة والتخلي عن سياسات اقتصاد السوق الحر والتوجه نحو البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية، وتراجع نموذج السوق لصالح نموذج الدولة والسوق معا...
وكان ذلك في سبيل استرجاع هذه الدول للاستقرار والهدوء داخلها، وهو الشيء اللاّزم للتفكير في سياسات إنمائية جديدة وناجعة يعمّ بها الخير على الجميع، ومن ضمن تلك الدول أيضا عمان والأردن فهي أيضا سارعت إلى إحداث إصلاحات اقتصادية لتوفير فرص العمل ما أمكنها.
ويعتبر القطاع العام أو الحكومي كمشغّل لحوالي ثلث القوة العاملة على المستوى العربي العام، ذا دور ريادي في سوق العمل، سواء في الدول النفطية الرئيسية، أو في الدول ذات “القطاع العمل الكبير” في السابق مثل مصر وسوريا والجزائر، ويتمّ التّركيز في هذا الشأن على التوظيف في مجالي: الجهاز الاداري والبنية الأساسية والأشغال العامة، ويتمتّع كلا المجالين بقدرة استيعابية عالية للعمالة رغم ضعف الانتاج فيهما.
وتأتي بعد ذلك الزراعة، البناء والتشييد، والقطاع “غير النّظامي” باعتبارها القطاعات الأكثر استيعابا لقوة العمل.
ولكن بعض الخبراء يعتبر أنّ ما يجري في المنطقة هو مجرد تغيير للبطالة بهشاشة العمل، أي هشاشة ما يتوافر منه، ويعزو تحسّن نسب البطالة في بعض الدول العربية إلى:
ــ تباطؤ في نمو السكان الذين هم في سنّ العمل.
ــ زيادة غي عدد الوظائف غير الرسمية من دون حماية اجتماعية.
وبالتالي ينصح بالتركيز على تحسين نوعية الوظائف، لا الاعتناء بكميتها.
بـطـالــــــة هـيـكـلـيــــــــة
إنّ طبيعة البطالة في المنطقة العربية تختلف عما هي عليه في البلدان المتقدمة، فهي ليست دورية ولا موسمية، بل هي هيكيلية ناتجة عن اختلال عميق للبنية الاقتصادية، وهذا يرجع بالأساس إلى:
ــ التبعية المتزايدة لبلدان المنطقة.
ــ الأخطاء والعيوب الفادحة في مسارها التنموي.
وقد يستغرب البعض من وجود البطالة بدول الريع النفطي مثل دول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك الجزائر التي بذلت حكومتها جهدا كبيرا في تقليص نسبة البطالة من حوالي 30٪ في سنة 1999 إلى أقل من 10٪ في الثلث الأول من سنة 2013، ولكن هذا الأمر طبيعي لدى أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا الأمريكية، والحاصل على جائزة نوبل، “جوزف ستيغليز”، فالدولة التي لها موارد طبيعية كبيرة غالبا ما ترتد على شعبها فيصاب بالفقر، لأنّه يصاب بمرض يدعى “المرض الهولندي”، وهو يتلخّص في الاستهلاك غير المنتج (كانت مجلة “الايكونوميست” البريطانية أوّل من نشرت المصطلح في أحد أعدادها سنة 1977).
العـمـالــــــة الـوافـــــــــدة
مثل ذلك الداء هو الذي جعل دولا عربية غنية مثل دول مجلس التعان الخليجي تعتمد على العمالة الوافدة، في حين أنّ قسما من مواطنيها يعانون من البطالة التي بدأت تتزايد بالمنطقة.
فهذه الدول التي تتميّز بضيق قاعدتها السكانية وسرعة نمو الناتج لديها بفضل الريع البترولي، عرفت العمالة الوافدة لديها تزايدا حادا وتغيرا ملحوظا من حيث توزيعها، بحسب بلد الأصل والبلد المستقبل، فالاحصاءات المتوافرة تشير إلى ارتفاعها من سنة 1975 من 1 ، 1 مليون شخص إلى 12 ، 4 في 1985 ثم قفزت إلى 5 ، 8 مليون في 1995 ومنها إلى 7 ، 12 مليون في 2005.
وحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإنّ عدد العمالة الوافدة إلى منطقة الخليج في سنة 2010 تربو عن 15 مليون شخص.
ومعظم العمالة الوافدة إلى المنطقة هي آسيوية خاصة الهندية والبنغلادشية، بعد أن كانت العمالة العربية وفي مقدمتها العمالة المصرية تمثل 72٪ من إجمالي العمالة الوافدة في منتصف السبعينات.
وربّما نستغرب هذا التراجع النسبي للعمالة العربية أمام العمالة الآسيوية، رغم البطالة المزمنة التي تعيشها البلدان العربية المصدّرة للعمالة، ولكن قد يجد ذلك تفسيره بالرجوع إلى أسباب عديدة منها :
1 ــ القرب الجغرافي للخليج من شبه القارة الهندية والتواجد التاريخي للهنود بالمنطقة.
2 ــ تفضيل الكثيرين للعمالة الآسيوية على العربية لانخفاض تكلفتها من جهة، والخصائص النفسية التي تتميز بها هذه الطائفة والتي تجعلها سهلة الانقياد والطاعة وعزوفها عن الاختلاط بالأهالي من جهة أخرى.
3 ــ وجود جماعات ضغط لها مصلحة في جلب المزيد من العمالة الآسيوية، والتوسع الكبير الذي شهدته السنوات الأخيرة في طلب العمالة الوافدة في مجالي الخدمات المنزلية والشخصية، خاصة من الإناث.
4 ــ عزوف المواطن الخليجي عن العمل كأجير في القطاع الخاص.
هذا رغم أنّه بمقتضى اتفاقيات العمل العربية كان من المفروض أن تعطي الدول الخليجية الأفضلية للعمالة العربية في التشغيل بعد العمالة الوطنية، ولكن الواقع يعكس تفضيل العمالة الآسيوية في أسواق العمل بالخليج العربي مقارنة بالعمالة العربية وحتى المحلية.
وهذه العمالة العربية كانت تستوعبها ليبيا قبل أفرقة العمالة في عهد القذافي، وكذلك العراق قبل الحصار ثم الحرب في 2003 وغزوها من طرف أمريكا.
ولكن يبدو أنّ ليبيا سوف تحتاج إلى العمالة التونسية والمصرية لإعادة إعمار ليبيا التي خربت نتيجة الثورة ضد نظام القذافي.
تخفيف البطالة يحتاج
إلى تظافر الجهود
لا نستطيع اليوم في ظل الظروف الانتقالية والمرحلة المفصلية الدقيقة التي يمر بها العالم العربي، بعد الثورات العربية التي انطلقت من دول حقّقت نسب نمو محترمة 5 ، 4 في تونس و 4 ، 5 بمصر ولكن التوزيع لم يشمل جميع الشعب، والتي لا أحد يعلم المدة الزمنية التي سوف تستغرقها، لا نستطيع القضاء على البطالة نهائيا بالمنطقة العربية، بل جلّ ما يمكن فعله هو التخفيف من حدة البطالة عبر معالجة هذه الظاهرة التي تعدّ فالية الأفاعي بالنسبة للحكومات العربية، لا بواسطة حلول تقليدية بالاعتماد على “اليد الخفية” لقوى السوق ولا باللّجوء إلى سياسات ظرفية يتم إعدادها لتسكين الوجع ولمجابهة ظروف طارئة، فظاهرة البطالة صارت مستحكمة ومتغلغلة في الجسم العربي، ممّا يدق ناقوس الخطر على أمن وسلامة واستقرار المجتمع العربي برمّته، فكما يقول المثل “الخلّة تدعو إلى السلة”، أي أنّ قلة ذات اليد مدعاة وسبب إلى الجريمة.
لذلك ينبغي على الحكومات العربية ألاّ تعمل منفردة في وضع سياسات إنمائية بديلة تستوعب متطلبات واحتياجات الشباب والمرأة في العمل اللائق والسكن والتكوين المتواصل، بل عليها أن تشرك كلا من المجتمع المدني والقطاع الخاص، وتجري مع كل أطراف الإنتاج (أرباب العمل والعمال) مشاورات وحوارات عميقة ومكثّفة قصد التوصل إلى تبني نموذج إنمائي جديد ومناسب وناجع، يوقف البلاد العربية على أرضية اقتصادية صلبة، لا تهتزّ كلّما مال مائل.