الجزائر من عاصمة للطاقة إلى قاطرة للحوار

«أوبيب» بعد سنوات من التصدع حقّقت الحد الأدنى للتوافق

سعيد بن عياد

«الوفد الجزائري لعب دورا متميزا في بعث الحوار بين أطراف كانت لا تؤمن إطلاقا بالالتقاء والنقاش كما هو بين السعودية وإيران اللتين وجدتا في الجزائر المناخ الملائم لكسر الجليد»

تحولت الجزائر إلى عاصمة لعالم المحروقات بفضل احتضانها المنتدى الدولي للطاقة  15 وكذا اجتماع حاسم ونوعي لمنظمة البلدان المصدرة للبترول «أوبيب» التي أعادت بعد سنوات عديدة من التصدع والضياع ترميم صفوفها، وانجاز الحد الأدنى للتوافق من أجل العمل بشكل منسق ومتوازن لإعادة الاستقرار للسوق البترولية باعتماد مستوى للإنتاج يضمن انتعاشا للأسعار. وعلى امتداد أسبوع تقريبا كان للدبلوماسية الجزائرية الاقتصادية بالخصوص دور بارز في جمع كافة الأطراف وسط أطياف عديدة من الخبراء من كافة التوجهات لصياغة ورقة طريق ضمن مبادئ وجدت قبولا يلقي بتفاؤل لتأسيس أرضية اتفاق قريبا يخرج سوق النفط من دوامة التخمة ليستعيد سعر البرميل مستواه المطلوب بما يتلاءم مع انشغالات وتطلعات البلدان المتضررة من انهيار الأسعار وهو الضرر الذي بدأ يمس حتى البلدان التي تتميز باحتياطي وقدرة إنتاج كبيرين.
وكانت للإجراءات الأمنية الدقيقة التي أحاطت بالحدث الذي احتضنه المركز الدولي للمؤتمرات - في أول نشاط له بعد تدشينه قبل أيام فقط من طرف رئيس الجمهورية الذي كان له الفضل في إطلاق بناء هذا الصرح العملاق والرائع بشهادة الضيوف - أثرا ايجابيا ساهم في نجاح الأشغال بحيث سادت السكينة والطمأنينة في النفوس خلافا لما كان يريده البعض ممن أزعجتهم عودة الجزائر إلى صدارة المشهد الدولي بما يعكس سلامة جانب المصداقية لدبها وحنكة القائمين على شؤون إدارة الدولة. وعكس التأمين المحكم للمنتدى ولقاء «أوبيب» الذي تطور بسرعة إلى اجتماع استثنائي مدى أهمية ارتباط التنمية الاقتصادية وإنجاز أسس النمو بالأمن كعامل استقرار وضامن له بحيث أصبح بإمكان المتعاملين والخبراء والفاعلين في الساحة الاقتصادية والاستثمارية تسطير البرامج وإطلاق المشاريع دون خشية من أي خطر كان ذلك أن أول ما يبحث عنه الرأسمال أيا كان مصدره من مختلف جهات العالم هو جانب الأمن لينخرط في مسار الاستثمار.
وإذا كانت أشغال اجتماع منظمة البلدان المصدرة للبترول («أوبيب» بالفرنسية و»أوبيك» بالانجليزية) قد طغت من حيث الصدى الإعلامي والمتابعة من جانب ممثلي وسائل الإعلام على أشغال منتدى الطاقة الدولي، فإن هذا الأخير حقّق نتائج ذات نوعية من حيث الخلاصات والتوصيات التي أبرزت جانبين هامين، الأول أن الغاز الطبيعي هو البديل في المديين القصير والمتوسط في مواجهة معضلة البترول وإشكالاته التسويقية والكلفة الإنتاجية، والثاني أن التحول الطاقوي نحو اعتماد الطاقات المتجددة أصبح أكثر من ضرورة باعتبار أن النفط في أفق سنة 2025 / 2030 سيتحول إلى مادة كغيره من المواد التي لا تصنع الحدث أمام بروز اقتصاد المعرفة من خلال ما يعرف بالثورة الصناعية الكبرى، كما أن مصادر إنتاج الثروة لم تعد في يد من يملك النفط بقدر ما تحولت إلى يد من يملك التكنولوجيا كما هو الشأن في عالم المعلوماتية.
ولعب الوفد الجزائري من خلال تشكيلة الخبراء المشاركين ضمنه دورا متميزا في تنشيط اللقاءات وبعث الحوار حتى بين أطراف كانت إلى غاية ما قبل وصولها إلى الجزائر لا تؤمن إطلاقا بالالتقاء والنقاش وتبادل الأفكار وشرح المواقف كما هو بين المملكة العربية السعودية وإيران اللتان وجدتا في الجزائر المناخ الملائم لكسر ولو القليل من الجليد بالانخراط في ديناميكية السعي إلى انجاز توافق جماعي ترك بصماته على مستوى النتائج التي حققها اجتماع «اوبيب» إلى درجة أن كل طرف قبل بتقديم تنازلات والشروع في العمل من أجل ترميم العلاقات التي أفسدتها توجهات سياسية تخضع لاعتبارات جيواستراتيجية تتلاعب بها قوى عالمية ذات نفوذ هائل، بينما لمثل هذه البلدان القدرات والإمكانيات لإرساء منظومة للتعاون والتبادل في إطار من التضامن الإنساني لفائدة التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل في الجوهر صمام أمان في مواجهة نزعة الصراعات وانتشار الفوضى القائمة على الفتن وإذكاء الخلافات من جانب من لديهم فائدة مباشرة من استهداف الدول الناشئة للهيمنة على مواردها وتعطيل مسار تنمية شعوبها.
وبقدر ما نجحت فيه الجزائر من حيث الاحتضان والتنظيم وبعث روح الحوار فإنها تأكدت أيضا من أنها على مشارف منعرج التحول الاقتصادي من بوابة التحول الطاقوي بالتدريج والمرحلية، وبالتالي الإسراع في تحليل النتائج العلمية وتشخيص الخبرات الدولية لصياغة مسار جديد يرتكز على المؤشرات التي يقدمها الخبراء المحليين والاستئناس بما يقدم على الصعيد الدولي من أجل تأسيس للمرحلة المستقبلية التي يراهن عليها في انجاز اقتصاد إنتاجي متنوع غير مرتبط عضويا بالمحروقات، بل الحرص على تحويل الطاقة ومواردها المالية إلى وقود لقطار ما بعد البترول، الأمر الذي يستدعي انخراط كافة الأطراف خاصة المؤسسات في شتى القطاعات والمقررين الاقتصاديين كل على مستواه في ديناميكية جديدة تضع الفكر والكفاءات والإبداع التكنولوجي والتجديد في التنظيم والهيكلة الاقتصادية المرنة مع انفتاح ذكي وفعال وتسير ناجع ضمن أولويات العمل في الظرف الراهن.
وتوجد اليوم فسحة من الزمن لا تتعدى الثلاث سنوات لبلوغ الأهداف المسطرة في ظلّ مناخ محلي يتطلب مساهمة الجميع في تنميته من خلال المشاركة في النقاش وتقديم الأفكار والتصورات انطلاقا من أن الأمر يتعلق في الجوهر بخدمة بالمصلحة الوطنية وحماية مستقبل الأجيال مع الانتقال إلى مستوى متقدم من الأداء الاقتصادي على طريق الاستثمار في القطاعات غير النفطية بالدرجة الأولى مثل السياحة والفلاحة والصناعة التحويلية المرتبطة بموارد طبيعية محلية وفقا لرؤية نحو التصدير إلى الأسواق الخارجية مثل إفريقيا، التي تضرب موعدا بالجزائر بمناسبة تنظيم منتدى التصدير إلى أسواق بلدان القارة السمراء في ديسمبر القادم كوجهة جديدة يمكن التعامل معها بالرغم من بدايتها الصعبة، وهو ما ينتظر أن يحققه المتعاملون الجزائريون بكافة أصنافهم وأنماطهم القانونية خواصا وعموميون وبالشراكة عن طريق الشروع مبكرا في دراسة الفرص واكتشافها ليذكون الموعد المرتقب محطة لإنجاز صفقات للتصدير وبناء مشاريع بالشراكة على أساس المصالح المتوازنة واقتسام المنافع والأعباء.
غير أن التوجه إلى تلك المرحلة الجديدة بكل ما تقتضيه من فعالية ونجاعة تضمن الحد الأدنى للنمو والبقاء في منأى عن تداعيات أسواق المحروقات - التي يمكن التحرر منها بالتوجه إلى الطاقات المتجدّدة والشروع في إدراجها في المشاريع خاصة بالنسبة لقطاع السكن والعمران والمنشآت القاعدية والاستثمارات في المركبات والمؤسسات الفندقية والفلاحة وغيرها - لا يمكن أن يتم دون إحداث الأطر والأدوات المرافقة ومن أبرزها، كما لم توقف الخبير الجزائري عبد الرحمان مبتول عن الدعوة إليها، تأسيس لجنة مستقلة للتخطيط الاستراتيجي، توفر لأصحاب القرار الخيارات والمسالك الواجب إتباعها للإفلات من تداعيات أي أزمة محتملة كما هو حاصل مع انهيار أسعار البترول، ومن ثمّة امتلاك المفاتيح المناسبة لتجاوز أي خطر يتهدّد الأمن المالي للبلاد، ذلك أنه لا يمكن الاستمرار في مسار يجتهد فيه كل قطاع على هواه ومستواه فيتم إهدار الإمكانيات وضياع القيمة المضافة التي تشكل الحلقة المتينة في المنظومة الاقتصادية. كما يقع على عاتق الفاعلين الاقتصاديين الكبار من شركات لديها القدرات لإحداث النقلة المرتقبة، على غرار شركات المحروقات والمرافق العامة المستهلكة للموارد المالية، واجب والتزام العمل في سياق المرحلة باعتماد الذكاء الاقتصادي والدفع بالكفاءات إلى الواجهة لإعداد الخلف القوي والمحصن بالاحتكاك والتجربة وتنشيط خيار اقتصاد النفقات بالتخلي عن سلوكات تحولت إلى عادات لها كلفة على المردود المالي مثل الإفراط في التجهيزات وغياب الصيانة للعتاد والمصاريف الزائدة عن اللزوم ذلك أن البلد في مرحلة تفرض أن يقوم كل طرف بحسن إدارة الموارد وإجادة عد نقوده في سوق لا مجال فيها للتفاؤل المفرط بقدر ما هي مرحلة للحيطة والتسيير الحذر في إطار معادلة حسن قراءة المؤشرات المحلية والعالمية وحسن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية على أساس قاعدة الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعي.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024