أثبت الاتحاد العام للعمال الجزائريين خلال نحو ستة عقود كاملة أنّه التنظيم النقابي الأوسع تمثيلا من حيث القاعدة العمالية، علما أنّه نقابة مقاومة نابعة من رحم الثورة، ورافق الجبهة الاجتماعية والمعركة الاقتصادية مدافعا عن الخيارات التنموية، في ظل لعب أدوار بارزة وساطعة عمّقت من إرساء الاستقرار وتكريس السلم الاجتماعي، منتزعا مكاسب اقتصادية انعكست على الجبهة الاجتماعية وعالم الشغل، ويعود لها الفضل في وقف مخطط الخوصصة الذي كاد أن يفكك النسيج الاجتماعي وتم في ظروف غير طبيعية. ويسهر الإتحاد العام للعمال الجزائريين في الوقت الراهن على رد الاعتبار للإنتاج الوطني بعد أن ساهم في إحياء النسيج المؤسساتي، الذي أوصدت أبوابه وبقي في مرافعة متواصلة لتحسين منظومة الأجور.
وتستمر معركة التنمية الاقتصادية التي تخوضها الجزائر بثقة وبخيارات واضحة بفضل رصيد تجربة مرت بها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بنقائصها ونقاط قوتها، وفي ظل وفرة الموارد المالية والبشرية وكذا الإرادة السياسية، وصارت المركزية النقابية بثقلها التمثيلي للعمال تشارك في اتخاذ القرارت الاقتصادية والاجتماعية الإستراتجية من خلال قنوات الحوار ولقاءات الثلاثية التي صارت تقليدا منتظما، يعكس التزاما نقابيا ينسجم مع الارادة السياسية للدولة، ويتوافق مع تطلعات أرباب العمل والاقتصاديين من أجل النجاح في تحقيق قفزة تنموية، الجزائر في أمسّ الحاجة إليها في الوقت الحالي، قفزة تصبّ نحو إقلاع اقتصادي قوي بوتيرة سريعة.
توجّه ثابت رغم تعاقب المراحل
عرفت الجزائر وتزامنا مع الإصلاحات التي تمّ إرساؤها، خاصة مطلع التسعينات ميلاد التنظيمات النقابية المختلفة، والتي تتقاطع وتلتقي في مسار الدفاع عن حقوق العمال وترافع عن مطالبهم المهنية والاجتماعية، لكن المركزية النقابية واصلت استقطابها لمختلف الفئات العمالية، وتبنّت انشغالاتهم وبقيت التمثيل الأوسع والأكبر والأعرق، وانتقلت من خيارت الدفاع عن سيادة الوطن ومطالب العمال في الدفاع عن الآلة الانتاجية التي تعد مصدرا لخلق الثروة ولتحريك والحفاظ عن عالم الشغل، مشاركة في ورشات صياغة الترسانة التشريعية ومراجعة سلم الأجور وحل الخلافات والنزاعات داخل المؤسسات الاقتصادية والدفاع عن الخيارات الاقتصادية الناجعة، فلا يمكن اتخاذ قرار غلق مؤسسة أو إصلاحها في معزل عن الاتحاد العام للعمال الجزائريين.
ويرتبط تنظيم المركزية النقابية دائما بأهم المعارك التي خاضها الوطن، فالبداية كانت مع تحرير الأرض من براثين الاستعمار، وبرز في ميلاد التأسيس اسم كبير وبطل شجاع ضحّى كثيرا من أجل استعادة الجزائر لسيادتها، وتمكّن القائد الشهيد عيسات إيدير من التأسيس للخيار النقابي في وقت عصيب، فجنّد العمال حول ثورتهم وعرف كيف يكثّف من تأييدهم ودعمهم لثورة التحرير المجيدة ماديا بتبرعاتهم الشهرية، ولوجستكيا بالضغط على المستعمر داخل وخارج الوطن، والتوعية والتحسيس وسط الجبهة الاجتماعية، وفي عمق الأوساط الشعبية التي أنهكها الظلم والحرمان.
ومن أبرز الرجال الذين ضحّوا ليستمر النشاط النقابي، وليتواصل الدفاع عن حقوق العمال بل كان صوتا ينوب عن الطبقة الشغيلة، عبد الحق بن حمودة الذي سقط شهيد الواجب الوطني، ورغم سنوات العشرية السوداء لم يتخلى عن العامل وبقي بنضاله صامدا في أحلك الظروف الأمنية والاقتصادية، وفي مواجهة أصعب التحديات الاجتماعية.
وتتجلى المكاسب التي حققها اليوم الأمين الحالي للمركزية النقابية عبد المجيد سيدي السعيد في تقدم وتطور النشاط النقابي، حيث صار الاتحاد العام للعمال الجزائريين بثقل الصوت الذي يرسي الاستقرار والسلم الاجتماعيين، ويدافع عن المنظومة الاقتصادية التي تعد ملكا للعمال، ويشارك في قمم ثلاثية وفي صياغة لأول مرة في تاريخ الجزائر العقد الاجتماعي والاقتصادي الذي رأى النور لأول مرة عام 2006، وفوق ذلك يرفع مطالبا اقتصادية واجتماعية لتحسين الأجور والحفاظ على المؤسسة الإنتاجية.
قمم ثلاثية وعقد اقتصادي نموذجي
اتّسمت تجربة القمم واللقاءات الثلاثية التي تجمع الحكومة بشركائها الاقتصاديين والاجتماعيين على مدى سنوات طويلة بفرض روح الحوار، وطرح الملفات الاقتصادية والمطالب الاجتماعية على طاولة النقاش، ولم يثبت أن الخلاف أدى إلى طريق مسدود، بل كانت العديد من المطالب خاصة تلك التي تصب في مطلب الزيادات في الأجور أو الرفع من الأجر الوطني الأدنى المضمون تؤجل إلى لقاءات لاحقة، وظل النضال النقابي مستمرا للدفاع عن انشغالات الجبهة الاجتماعية ومطالب الطبقة الشغيلة، وبقي صوت العمال حاضرا من خلال نقابته. وبالموازة مع افتكاك المطالب الاجتماعية كانت المركزية النقابية مطالبة بتوفير سلم واستقرار اجتماعي من أجل التفرغ للتنمية الاقتصادية، فسهرت على ذلك للتخفيف من مظاهر الاحتجاجات وقلّصت من الإضرابات التي تشنّ بسبب مطالب مهنية، ولعل الالتزام الثلاثي في أول عقد اقتصادي واجتماعي رأى النور في الجزائر أبرم بين شركاء الثلاثية، تؤكد ضرورة الإلتزام بتكريس الهدنة الاجتماعية للتفرغ للتنمية يعد بداية تطور الحوار الاجتماعي والاقتصادي، ليتّخذ منحى التفعيل بعد ذلك عقب بروز عقد وطني اقتصادي واجتماعي للنمو، أثني عليه في مكتب العمل الدولي، وينتظر بفعل لجنة التقيم التي ترافق تطبيقه أن يحقق العديد من الأهداف المسطرة خلال السنوات المقبلة
القطاع العام قاطرة النمو
توّجت آخر قمّة ثلاثية انعقدت خلال الفصل الأخير من السنة الفارطة بقررات تاريخية هامة افتكها الشريك الاجتماعي، وفي صدارتها الحسم في مراجعة المادة 87 مكرر من قانون العمل التي تم إقرارها بشكل استثنائي في عقد التسعينات بفضل الصعوبات الاقتصادية التي مرت بها الجزائر عقب انخفاض أسعار النفط، وشكل هذا المكسب الاجتماعي لعالم الشغل انشغالا دائما للاتحاد العام للعمال الجزائريين، حيث تمّ رفعه طيلة سنوات وتم تجميده، ليتصدر في آخر قمة ثلاثية مطالب طاولة الحوار الاقتصادي والاجتماعي الذي جمع شركاء الثلاثية، وتضمن قانون المالية 2015 الغلاف المالي الذي سيتكفّل بتغطية الزيادات في أجور عدد معتبر من العمال بنسبة لا تقل عن 30 بالمائة، علما أنه يستفيد من هذه الزيادات العمال الذين يتقاضون أجرا قاعديا لا يتعدى حدود 18 الألف دينار. في انتظار توسيع دائرة المستفيدين من هذه الزيادات وكذا الإلغاء مستقبلا.
ومنذ 2006، سجّلت الزيادات في أجور العمال والموظفين في القطاع العمومي والخاص منحى تصاعديا محسوسا لم يسجل من قبل، وساهم في الرفع من القدرة الشرائية لولا ظاهرة المضاربة والزيادة في الأسعار بشكل غير مسبوق وليس مبررا. وسهر الاتحاد العام للعمال الجزائريين على تصحيح سلّم الأجور الخاص بالعديد من المؤسسات، ومازال يواصل بذل جهوده التي تصبّ في هذا السياق حرصا منه على ترقية القدرة الشرائية لجميع الموظفين والعمال، لأنه يتواجد بقوة في القطاعين العمومي والخاص.
ولعل اتخاذ قرار عودة القرض الاستهلاكي شريطة أن يقتصر على المنتوج الوطني من شأنه أن يساهم في ترقية المنتوج الوطني، وتشجيع الإقبال عليه في السوق المحلية، ويحفّز الآلة الإنتاجية الوطنية على الرفع من جودة ما تطرحه في الأسواق ويدعم القدرة الشرائية، فبدل اللجوء إلى التدين تجد أمامها حلولا أنجح تتمثل في التوجه نحو قروض استهلاكية.