بعد أربع سنوات على اندلاع الكفاح المسلح، بدا للجميع أن الثورة بحاجة إلى هيكل رسمي يحتضن ما يقابلها من نضال سياسي ودبلوماسي، ويعرّف بالقضية الجزائرية على المستوى العالمي، بل ويقودها إلى الأمم المتحدة، فكان ميلاد الحكومة المؤقتة التي أعلن المجلس الوطني للثورة تشكيلها في ١٩ سبتمبر ١٩٥٨.
وبإعلانها، أصبح للجزائريين الذين حقّقوا انتصارات عسكرية كبيرة على الميدان، هيكلا رسميا هدفه توحيد الصفوف والرد السياسي على تصعيدات الاستعمار من جهة، وقيادة أي مفاوضات محتملة مع فرنسا من جهة ثانية، خاصة وأن هذه الأخيرة وغداة حركة ١٣ ماي التي أعادت ''ديغول'' إلى الحكم بدأت تلمح إلى استعدادها للتفاوض إذا وجدت إطارات في الجانب الآخر، يقود هذه المفاوضات مند البداية، إذن تحدّدت أهداف الحكومة المؤقتة التي جسّدها رجالها العظماء بكل براعة، ولعلّ أهم هذه الأهداف وأكثرها إلحاحا في تلك المرحلة، هو تشكيل أداة للتعبير عن القضية الجزائرية في المحافل الدولية وكسب تأييد وتعاطف الرأي العام الدولي وقبل ذلك كسب مواقف الدول الشقيقة والصديقة وتحريك أدوارها لصالح الحق الجزائري في الاستقلال والحرية.
كما أن تشكيل الحكومة المؤقتة كان يرمي إلى الرفع من معنويات المجاهدين والشعب الجزائري على حد سواء، كون قيام هذا الهيكل الهام، سينظر إليه كمؤشر عن قرب الاستقلال وهذا ما أعطى دفعا للعمل المسلح الذي لا يمكنه أن يتواصل إلا بدفع من النشاط السياسي والدبلوماسي، الذي تحركت آلته ترمي بثقلها هنا وهناك من خلال الجولات التي قادها وزير الخارجية كريم بلقاسم، حيث زار الصين أين استقبله الزعيم ''ماوتسي تونغ'' بعد استقبالات جماهيرية حافلة.
وكان من نتائج هذه الزيارة، زيادة حجم المساعدات الصينية للثورة المسلحة عسكريا وصحيا وماليا.
وحظي كريم بلقاسم بترحاب كبير وهو يزور البلدان العربية التي ضاعفت حجم مساعداتها للثورة وللأمانة وردّ الجميل، يجب الاعتراف بالدور الهام الذي قدمته المجموعة العربية الشقيقة لدعم القضية الجزائرية التي تبنتها فأصبحت قضيتها، ولم ينحصر هذا الدعم في جانبه المادي والتسليحي على أهميته، بل لقد بدلت البلدان العربية، كل امكانياتها في سبيل ايصال القضية الجزائرية إلى مجلس الأمن وفي بداية ١٩٥٥ أثارت المملكة العربية السعودية المشكل الجزائري إلى مجلس الأمن في جوان ١٩٥٦.
وطبعا كان لغياب هيكل رسمي أي حكومة تمثل الجزائر، دوره في فشل كل محاولات وجهود الأشقاء والأصدقاء في تدويل القضية وإنصافها.
في مبنى الأمم المتحدة
رغم المكاسب التي حققها من خلال جولاته في البلدان الشقيقة والصديقة، إلا أن عينُ كريم بلقاسم ومن ورائه الحكومة المؤقتة كانت موجهة نحو مبنى الأمم المتحدة، وفعلا لقد طار كريم إلى نيويورك وعاد منها بمكسبين هامين، الأول مصادقة الجمعية العامة في دورتها الـ ١٥ على لائحة تعترف لأول مرة بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره والاستقلال، والثاني مقابلة الزعيم السوفياتي آنذاك خروتشوف.
وكان اللقاء إيدانا باعتراف موسكو بالحكومة الجزائرية المؤقتة، وطبعا لهذا الاعتراف وزنه فالاتحاد السوفياتي كان قوة عظمى في ذلك الوقت...
و في ظرف عامين حققت الحكومة المؤقتة مكاسب كبيرة انعكست على الميدان، خاصة بعد مظاهرات ١١ ديسمبر ١٩٦٠ التي كانت دعما كبيرا للآلة الدبلوماسية على الصعيد الدولي بعد أن أسقطت تلك المظاهرات ورقة الرهان على صمت الشعب من أيدي الدبلوماسية الفرنسية.
وما أن حلت سنة ١٩٦١، حتى دخلت المفاوضات مرحلتها الجدية بعد أن تأكد ديغول من أن كل مناوراته العسكرية والسياسية والاقتصادية (مشروع قسنطينة) باءت بالفشل، فاستسلم للأمر الواقع الذي فرضته الآلة الدبلوماسية والعسكرية التي كانت تتحرك بتكامل، فكلما اشتدّ الضغط على الثورة المسلحة تتحرك الحكومة المؤقتة لتفكيك وإضعاف هذا الضغط وكلما شددّ المفاوض الفرنسي حصاره على المفاوض الجزائري كانت الثورة تلتهب.
الدبلوماسية الجزائرية تنتصر
لم ينتقل ديغول من سياسة الجزائر فرنسية إلى قبوله بمبدأ تقرير المصير للشعب الجزائري بمحض إرادته، بل لقد رضخ أمام نيران الثورة وتفوق الدبلوماسية الجزائرية، وفشل برنامجه العسكري والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي الذي أثار نقمة شعبه ضده لتردي أوضاعهم في فرنسا.
فقرّر أمام هذه الضغوط الإقرار بعجزه وفشله وسلّم بحتمية وقف الصراع في الجزائر الذي أصبح يتجلى بوضوح، أن المنتصر فيه سوف لن يكون إلا الجزائري صاحب الأرض والحق.
في ٢٤ جوان ١٩٦٠ وجّه الرئيس الفرنسي نداء لقيادة الثورة وهي أول مرة يصف فيها المجاهدين بهذا الوصف، يطلب منه أن يأتوه إلى باريس للتفاوض.
وبعد عشرة أيام بدأت محادثات ''مولان'' التي جرت في ٢٥ جوان واستمرت إلى غاية ٢٩ جوان، وكانت هذه المحادثات التي ترأسها فرحات عباس أول اتصال رسمي هدفه الأساسي جسّ النبض.
وفي ٢٠ ماي من العام الموالي ١٩٦١ انطلقت مفاوضات إيفيان الأولى التي توقفت في ١٢ جوان إلى أجل غير مسمى لخلاف حول ثلاثة شروط أمرت فرنسا على فرضها وهي:
١ ـ موافقة الجزائريين على قيام وضع خاص للجالية الأوروبية في الجزائر.
٢ ـ عدم اعتبار الصحراء كجزء من الجزائر.
٣ ـ قضية توقيع اتفاق وقف إطلاق النار.
لقد رفض الوفد الجزائري المفاوض تقديم أي تنازلات ترهن استقلال البلاد وتجعله شكليا ولم يكن متساهلا بالمرة وأعلن انسحابه من المفاوضات.
وهنا تدخلت الآلة العسكرية لتمنح للحكومة المؤقتة والمفاوض الجزائري وسيلة ضغط كبرى، حيث صعّدت عملياتها، كما كان لخروج الجزائريين في مظاهرات عارمة تحت صيحات ''الصحراء جزائرية'' دوره الكبير في جعل ''ديغول'' يرضخ ويستسلم للأمر الواقع، وأعلن في ٥ سبتمبر ١٩٦١ اعترافه بجبهة التحرير الوطني وتمثيلها للشعب الجزائري وأقر بجزائرية الصحراء.
إيفيان... الاستقلال أولا وأبدا
تواصلت اللقاءات إلى أن كانت مفاوضات ''إيفيان الثانية'' التي جرت ما بين ٧ و ١٨ مارس ١٩٦٢، وتمخضت عن هذه المفاوضات تسع اتفاقيات أهمها اختيار الاستقلال الذي يجري الاستفتاء بشأنه، وتعترف فرنسا بالاستقلال فورا وتكون للجزائر الحرية في تقرير السياسة الخارجية والمنهج الاقتصادي الذي تراه صالحا لضمان مستقبلها.
وقعت اتفاقيات ''إيفيان'' عشية ١٨ مارس ١٩٦٢ على الساعة الخامسة مساء، ودخلت عمليه وقف إطلاق النار حيز التطبيق منتصف نهار ١٩ مارس واعتبر مؤتمر طرابلس الذي انعقد في جوان ١٩٩٢ الاتفاقيات انتصارا للشعب الجزائري، كما أسفر هذا المؤتمر عن خطة تنظيم الدولة الجزائرية التي ستبدأ مهامها في ٥ جويلية ١٩٦٢، متوجة سبع سنوات ونصف السنة من الكفاح المسلّح وأربع سنوات من النضال السياسي والدبلوماسي الذي قاده رجال ببراعة، ولم يرضخوا للضغوط أو يستسلموا للاغراءات وتمسكوا بمطلب واحد إلى أن حقّقوا وهو تقرير المصير والاستقلال.
والشيء الواجب التنويه به هو أن الدبلوماسية الجزائرية كانت تتحرك بتنسيق مع الآلة العسكرية وكل واحدة كانت مكملة للأخرى، حتى تمّ النصر العظيم وخرج الاستعمار مهزوما ذليلا صاغرا.