ذكرى وعبرة قضى خلالها على 90 عسكريا من قوات العدو

معركـة تبرقنـت الشاهد الحي على عبقرية الجزائريـين

البليدة: لينة ياسمين

 ليست هي بالمبالغة ولا التضخيم ولا التهويل الدعائي أو العاطفي، لكنها الحقيقة الصادقة لا غبار ولا تضليل أو لغط فيها، إن قلنا أن ثورتنا المقدسة ألهبت ودوخت في مراحل من أيامها التاريخية عقول عساكر فرنسا الهمجيين، وتغلب فيها الثوار البسطاء والسلاح التقليدي في معارك اسطورية خالدة، على من تعلموا وتدربوا في أكاديميات عسكرية عالمية.
 كان الذكاء والالهام والحنكة الحربية، أسلحة دمار أرعبت العدو وفاجأته وهو الواثق بالنصر وقهرت كبرياءه وغروره، ومعركة “تبرقنت” بسلسلة الأطلس البليدي إلى الغرب في الحدود الفاصلة نحو مرتفعات “تمزقيدة”، واحدة من روائع تلك المعارك التي جعلت عساكر فرنسا الاستعمارية يتراجعون ويراجعون حساباتهم في كينونة وعبقرية الثوار.
 جوان 1957 تاريخ أسود تكره فرنسا ذكره. ..
في يوم حار من الثاني عشر جوان، وثورة التحرير تدخل عامها الثالث، قصد مجاهدون من جيش التحرير الوطني دوار “تبرقنت” والهادئ والمسالم بجبال إقليم وزرة حاليا غير بعيد عن مدينة الحمداينة بنحو 12 كيلومترا، للتزود بالمؤونة واخذ قسط من الراحة وزيارة الاهل والوالدين والابناء، وتجديد الطاقة لاستئناف الثورة ضد العدو الفرنسي. بينما كان الكل يفرح للزيارة الكريمة ويجتهد في الاحسان للضيوف المباركين لإسعادهم وتلطيف الجو عليهم والتخفيف عنهم، بعد تعب وغياب طال وحمل صفة غربة فُرضت عليهم وهم أبناء الأرض والوطن، كان واحد من أهل الدوار يعمل عينا للعدو، يسترق السمع والنظر ويحمل كل ما يسيء ويكشف عن تحركات وتواجد المجاهدين.
 دونما انتظار زف إلى العدو خبر الزيارة غير المحسوبة، لكن وبقدر ما كان لفرنسا أعين خبيثة ترصد كل ثائر في وجهها، بقدر ما كان للثوار أيضا أعين بجسم العدو ينبهونهم ويحذرونهم حتى لا يقعوا فرائس بأيدي الغدر.
جاء خبر تحرك جيش العدو وترتيب مباغتة المجاهدين بالدوار، وكانت المفاجأة غير المتوقعة، اتفق فيها المجاهدون الشجعان وانقسموا إلى كتائب  ثلاث (3) وقرروا البقاء بالدوار وتحصين أنفسهم وإيهام العدو أنهم لا يعلمون بعملية مباغتتهم.
تمت الخطة بإحكام وتدارسها الثوار وطلبوا من سكان الدوار والجيران مغادرة مساكنهم والاختباء بعيدا إلى حين يأذنون لهم، وانتظر المجاهدون قدوم العدو بعد أن احكموا قبضتهم على المداخل.
طيران العدو يقهره ذكاء مجاهدين ببنادق صيد...
كان الوقت فجرا حينما تحركت آلة العدو بعساكرها وطيرانها، وكانت الخطة أن يتوزع المجاهدون عند ربوات مرتفعة، كون الدوار يقع في منخفض يشبه قعر قصعة من خشب، وحسبوا للمداخل وقطعوا السبل عن جند فرنسا لجبرهم وهم الجاهلون لما ينتظرهم الدخول عبر منفذ واحد فقط.
نجحوا في خطتهم وتمركزوا جيدا متوزعين عبر تلك الربوات، كان الهدوء يعم ونسمات الصبح بدأت تنتشر عبر فضاء ساكن، دخل أول عسكري فرنسي وهو يحمل سلاحه وتسلل بقية رفاقه إلى وسط الدوار وتمركزوا بدورهم معتقدين بنجاح خطتهم الشيطانية، وما هي إلا لحظات تأكد فيها المجاهدون دخول العدو بالعد الكافي إلى وسط الدوار، حتى تعالت تكبيرات في السماء أرعبت الفرنسييين وأربكتهم وشلت حركتهم، وتهاطل الرصاص فوق رؤوسهم ونحو صدورهم.
ثمة علم الضباط أنهم وقعوا فريسة الثوار، حاولوا جاهدين تفادي الخسائر وانقاذ عسكرهم من الموت والخسارة، ولكن ذكاء المجاهدين تغلب عليهم، واستمرت المعركة الى عصر ذلك اليوم، استعان فيها العدو بما أمكنه من وسائل قتل ودمار واستند بطيران مروحي، قصف كل زاوية من الدوار.
 انتهت المعركة بعد ساعات دامية وحامية سقط فيها 90 فرنسيا مقابل 3 شهداء، وعلا نحيب العدو فيما انسحب بقية جند التحرير وهم يكبرون ويشيعون شهداءهم الثلاثة، ومكنت خطتهم من نجاة غالبية أهل الدوار من وحشية ودموية عسكر فرنسا، لكن وبالرغم من ذلك صبت فرنسا غضبها على الأهالي العزل بعد نهاية المعركة وأعدمت 39 مواطنا دون رحمة أو شفقة أو حتى محاكمة.
معركة كتبت بحروف من ذهب...
يروي عبد الكريم عبدادو أحد سكان الدوار الناجين لـ«الشعب”، أن فرنسا عانت طيلة ساعة المعركة وكادت أن تصاب في قادتها بالجنون، كيف لشرذمة قليلة عديمة الخبرة والسلاح، أن تتمكن من قتل نحو 100 من عساكرها.
وأضاف عبدادو، أن ذكاء الثوار وشجاعتهم كانت مفتاح نصرهم، وأن طيران العدو وسلاحه وعدد عسكره الذي كان بنحو 1200 عسكري مقابل 3 كتائب من جيش التحرير الوطني، وكل كتيبة تضم 150 مجاهد، فشل في الامساك ولو بثائر واحد بل كل تلك العدة والعتاد خسرت المعركة خسارة ستظل وصمة عار في جبينها عبر التاريخ.
وأثبت ذكاء ودهاء المجاهدين الحربي أنهم فعلا أبطال من معدن نفيس، “يقهرون ولا يقهرون”، لأن قضيتهم حق وجهادهم حق ووطنهم الجزائر حق وهم أصحاب حق والنصرة والانتصار لا تكون إلا لصاحب الحق.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024