إرث يهمــــــــس للتاريــــــــخ كي يكشــــــــف أســــــــرار الحضــــــــارات الأولى

”صافية بورنان”.. ذاكـرة منقوشـة على صخور الجلفة 

الجلفة: موسى دباب

في صمت يعبق بروح التاريخ، يقف الموقع الأثري “صافية بورنان” شاهدا شامخا على ذاكرة أمة، يروي بآثاره قصص حضارات تعاقبت، وملوك مروا من هنا ذات أمجاد تليدة..  على بعد حوالي 30 كلم من صخب مدينة الجلفة، يستقبل الزائر فضاء مهيبا تحيط به الطبيعة، وتروي فيه النقوش المتآكلة حكايات عصور سادت ثم بادت، لكنها ما تزال تنبض بالحياة في وجدان كل من تطأ قدمه هذا المكان الساحر.

برزت منطقة “عين الناقة” الواقعة على الطريق الرابط بين بلدية مجبارة ومسعد، كإحدى أهم المناطق التي تضم العديد من الممتلكات العقارية، على غرار “النقوش الصخرية”. وقد استقطبت هذه الأخيرة اهتمام عدد من المؤلفين الفرنسيين، من بينهم فرنسوا دو فيلاري، الذي وصف في كتابه “قرون السهوب” لوحة النقش الصخري الشهيرة “العاشقان الخجولان” بأنها مذهلة. هذه النقوش ليست مجرد فن صخري، بل هي انعكاس لحياة الإنسان القديم وآماله، فهي تسرد قصصا عن الزمان والمكان بكل تفاصيلها.
ويعود اكتشاف موقع “عين الناقة” إلى سنة 1954، على يد الباحث الفرنسي بيلين، الذي كشف عن آثار ذات قيمة تاريخية تعود إلى فترات قديمة، تعد اليوم من أبرز الشهادات على الممارسات الثقافية والفنية التي عرفتها المنطقة، وفي مقدمتها النقوش الصخرية التي ماتزال تزين الموقع.
وعلى أطراف منطقة عين الناقة، وبين تضاريس تلامس روح الصحراء وعبق التاريخ، ينتصب موقع “صافية بورنان” الأثري شامخا ككتاب مفتوح على حضارات قديمة مرت من هنا وخلفت بصمتها على الحجر والتراب.
هنا، لا تنطق الحجارة فحسب، بل تهمس بحكايات إنسان ما قبل التاريخ، وبآثار تعود إلى آلاف السنين، اختارت أن تظل شاهدة على عبقرية الإنسان الأول في التكيف مع المكان.

قصص حضارات منسية
«صافية بورنان”.. موقع أثري يقع بمنطقة عين الناقة ببلدية مجبارة، يعد خزانا تاريخيا لحضارات مرّت من هنا، تاركة بصماتها العتيقة على هذه الأرض. هو موقع يستحق أن يكتشف، ويصان، وتروى قصته للأجيال القادمة.
وتتواجد المحطة الأثرية “صافية بورنان” في جبال أولاد نائل، على بعد حوالي 6500 متر من المناطق السكنية، ليكشف عن جوانب تاريخية وفنية تلامس أعماق الزمان. ويعد هذا الموقع من أبرز المعالم الأثرية في المنطقة، كما يعتبر نافذة تطل على ماضي الإنسان القديم وطريقة حياته.
وتنتشر النقوش على الصخور حاملة صور حية لمختلف الأنشطة اليومية التي مارسها الإنسان في تلك الحقبة. حيث نرى مشاهد للصيد، الرعي، وحتى الطقوس الدينية، بالإضافة إلى تفاصيل بيئية تعكس التغيرات التي مرّت بها المنطقة من حيث المناخ والغطاء النباتي والحيواني.
ويعدّ هذا الموقع مرجعا هاما للباحثين في مجال الآثار، إذ يوفر إجابات للعديد من التساؤلات حول أسلوب حياة المجتمعات القديمة وتطوّرها. ومن خلال هذه النقوش، يظهر أن الإنسان القديم كان يمتلك وعيا عميقا ببيئته، ونجح في نقل رسائل ما تزال تهمنا اليوم لفهم تطور تاريخ المنطقة.

قراءة في مضامين النقوش
تعود نقوش “صفية بورنان” الصخرية إلى فترة ما قبل التاريخ، وتحديدا إلى الحقبة التي تمثل فترة “الجاموس العتيق” ذات الأبعاد الكبيرة. هذه النقوش تعد شاهدة على الحياة الحيوانية والنباتية التي كانت سائدة في تلك الحقبة، وهي تكشف لنا عن تنوع الحياة البرية في المنطقة آنذاك.
ويحتوي الموقع على مجموعة واسعة من النقوش التي تبرز مختلف الكائنات التي كانت تشكل جزءا من بيئة الإنسان القديم. نجد بينها خمسة نعامات، خروف، حمل ذا قرص، ثعبان، شخص، حمل بدن قرص، زهرة، حيوان رباعي الأطراف، بقر، حيوان بقري كبير، نعامة بدون رأس، ظبي أوركس، ثعلب، أربع غزلان، رأس سنوري، وأربع ضباء. هذه النقوش توضح لنا التنوع البيئي الذي عاش فيه الإنسان القديم، وتعكس بعض الممارسات اليومية التي كانت جزءًا من حياته.
هذه النقوش لا تقتصر على كونها مجرد صور حيوانية، بل تمثل أيضا أدلة حية على العلاقة المعقدة بين الإنسان والبيئة من حوله، وكيف أن الحيوانات والنباتات كانت جزءا أساسيا في حياة هذا الإنسان، سواء من الناحية الغذائية أو الرمزية.
كما تعد هذه النقوش دليلا قاطعا على الرقي الفني والثقافي للإنسان القديم، الذي تمكن من نقل لنا صورا حية عن تفاصيل حياته اليومية. ولكن الأهم من ذلك، أن هذه النقوش فتحت أمامنا نافذة تطل على الظروف التي عاش فيها أجدادنا، والتي تبدلت بشكل واضح مقارنة بالحاضر. وكان من أبرز هذه التغيرات المناخ، وما تبعه من تحولات في الغطاء النباتي والحيواني. حيث أن جميع هذه المعطيات تؤكد أن تلك الأعمال الفنية لم تكن مجرد صدفة، بل هي نتاج عقل مبدع وواعي. ومن خلال هذه النقوش، أصبحنا نمتلك أدوات حقيقية للإجابة على العديد من الأسئلة التي تتعلق بالحياة في المجتمعات القديمة، وهي بمثابة مرجع ثمين لعلماء الآثار.
كما تعتبر هذه النقوش من روائع فن ما قبل التاريخ في شمال أفريقيا، وهي شهادة حية على تواجد الإنسان في فترات غابرة، حيث تروي وتصف حياة الإنسان البدائي قبل اختراعه لفن الكتابة.

إبداع سبق الكتابة..
تقول عمري أحلام مختصة في مجال التراث، أن الفنان القديم اعتمد في إنجاز النقوش الصخرية بشكل عام، ومنطقة عين الناقة بشكل خاص، على تقنيتين رئيسيتين، الأولى هي تقنية الصقل، والثانية هي تقنية النقر. وما يلفت الانتباه هو تباين الاعتماد على هاتين التقنيتين من محطة إلى أخرى. ففي العديد من المحطات، كانت تقنية الصقل هي الأكثر استخداما، حيث يتم تحضير سطح الصخور بشكل ناعم لإبراز النقوش. بينما في محطات أخرى، كانت تقنية النقر هي السائدة، حيث يعتمد الفنان على ضربات قوية لترك آثار واضحة على الصخور. حيث نجد في بعض النقوش، أن الفنان قد مزج بين التقنيتين، مما يعكس تنوّع الأساليب وتطوّر المهارات الفنية لدى الإنسان القديم. علاوة على ذلك، لم تكن تقنيات النقش مجرد اختيار عشوائي، بل كانت تعتمد أيضا على مميزات المساحة الداخلية والخارجية للشكل، أي التقنية المعتمدة في معالجة سطح الواجهة أو تحضيرها بشكل يتناسب مع طبيعة الحجر والهدف الفني المراد تحقيقه”.
تواصل محدثتنا: “هذا التباين في التقنيات يعكس عبقرية الفنان القديم في التعامل مع مواد بيئته وتوظيفها لخلق أعمال فنية ذات طابع فريد”.
وتضيف: “تمثل اللّوحات الفنية الرائعة التي خلفها الإنسان عبر العصور المختلفة سجلا حيا يعكس جوانب متنوّعة من حياته اليومية، من ظروف معيشته ومحيطه إلى تطوّره الفكري والنفسي ومعتقداته الدينية. كما تعكس هذه الرسوم الحرف المنتشرة في تلك الحقبة مثل الصيد والصناعة، مما يوفر فهما أعمق للأنماط الثقافية التي سادت في تلك العصور”.
وأشارت المتحدثة إلى “إن الحفريات التي تمت في منطقة عين الناقة، والتي أشرف عليها الدكتور قريبونون GREBENANT مؤلف كتاب: عين الناقة، القفصي والنيوليتيك، 1969، وتشير الدراسات الأثرية إلى أن تعمير هذه المنطقة يعود إلى نحو 7000 سنة قبل القرن الأول الميلادي بالنسبة للفترة الإيبيلاباليتيكية، ونحو 5000 سنة بالنسبة للفترة النيوليتيكية، مما يؤكد وجود استقرار بشري قديم سبق العصور التاريخية بآلاف السنين. بالإضافة إلى ذلك، هناك مناطق أخرى في المنطقة تخفي بقايا أدوات وأيضا نقوش ورسومات صخرية. هذه الاكتشافات تبرز أهمية المنطقة كأحد المواقع الأثرية الهامة التي تقدم لنا لمحات عن حياة الإنسان القديم وتطوراته عبر العصور”.

التوعية.. سياج يحمي الإرث الثقافي
وفيما يخص التعدّيات، أشارت عمري إلى أن هناك نوعين رئيسيين، الأول طبيعي يتعلق بالعوامل الجوية مثل الرياح التي تحمل الرمال، مما يؤثر سلبا على النقوش الصخرية ويعجل بتآكلها. أما الثاني فهو بشري، حيث يتم استخدام أدوات مثل المطرقة أو الطلاء للتخريب، مما يشوّه هذه المعالم الثمينة. 
لكن ترى عمري أن أهم شيء لمواجهة التعديات البشرية، هو الشروع في الحملات التحسيسية والتوعوية، وقالت: “كل شخص يبني سياجا في ذهنه، لأن المشكلة ليست في التسييج، بل في أننا لا نؤهل الإنسان. فالسياج قد يخترق، ولذلك يجب أن نبني الإنسان قبل أن نؤهل الموقع، وبالتالي نضمن عدم حدوث أي تعديات على هذه الآثار”.
ولفتت إلى أنه “مع كل هذه التحدّيات، تظل مواقعنا الأثرية، جميلة وفريدة، تحمل بين صخورها وجدرانها تاريخا طويلا من الحياة الإنسانية القديمة. فهي ما تزال تروي قصصا رائعة عن أجدادنا، وتظل مصدر فخر للأجيال القادمة التي ينبغي عليها أن تحافظ على هذا الإرث العظيم، لا فقط بالآليات التقليدية، بل أيضا بتبني ثقافة الحماية والاعتزاز بتاريخها”.
كما أكدت على أن عملية الحماية لا ينبغي أن يقتصر على التوعية والتحسيس، بل يجب أيضا إشراك السكان المحليين في عملية حماية التراث الثقافي المادي سواء في منطقة عين الناقة أو المناطق الأثرية الأخرى. إذ ترى أن حماية هذا التراث لا يمكن أن تتم بشكل فعال فقط من خلال أساليب وطرق الصيانة التقليدية، بل يجب أن تشمل الاستفادة الفعلية من هذا التراث كمورد اقتصادي للمجتمع المحلي.

مسارات سياحية جديدة
وفي السياق، أكد مدير السياحة لولاية الجلفة، تاوتي علي، أنه في إطار تجسيد استراتيجية الاستغلال الاقتصادي للتراث الثقافي ودمجه ضمن النشاط السياحي، أولت مديرية السياحة والصناعة التقليدية بالجلفة اهتماما خاصا بإنشاء المسارات السياحية، وذلك من خلال دعم فرص المنافسة في المواقع الصخرية والأثرية المنتشرة عبر تراب الولاية. حيث قال “إن هذه النقوش الصخرية والأثرية المنتشرة عبر تراب الولاية، تعد استثناء وطنيا بالنظر إلى كثافتها وفرادتها، ما يجعل منها منتوجا سياحيا واعدا يدعم فرص المنافسة في السوق السياحي، خاصة في ترقية السياحة الداخلية”. وأضاف المتحدث أن “الرهان اليوم هو تحويل هذا التراث إلى عنصر فاعل في الاقتصاد المحلي من خلال إدماجه في النشاط السياحي، والسعي نحو صناعة ثقافة سياحية حقيقية تكون امتدادا لهوية المنطقة وتاريخها العريق”.
وأوضح تاوتي أن مصالحه “شرعت فعليا في تنفيذ توجيهات الوزارة الوصية، من خلال إدراج الجلفة ضمن البوابة الرقمية للمسالك السياحية الوطنية، والتي تتيح للزوار من داخل الوطن وخارجه، اكتشاف كنوزنا السياحية عبر منصة تفاعلية بثلاث لغات”، عبر الرابط الالكتروني:  HYPERLINK “https://www.algeriatours.dz” \t “_blank” https://www.algeriatours.dz
مشيرا إلى أن ولاية الجلفة “تمتلك حاليا 08 مسارات سياحية تسويقية متكاملة، تشمل 30 موقعا موزعا على مناطق ذات طابع ثقافي، طبيعي، حموي، وتاريخي، بما يراعي تنوع أذواق الزوار ويوفر تجربة متكاملة”.
ولتفعيل هذا التوجه، تم توقيع اتفاقية تعاون مع مديرية الثقافة والفنون تهدف إلى ترقية التراث الثقافي وتثمينه سياحيا وحرفيا، خاصة عبر الترويج للمسالك السياحية وتكثيف الجهود لتسجيل الممتلكات الثقافية ضمن قائمة الجرد الإضافي.
وقد شملت أولى خطوات هذا المشروع الطموح، برمجة زيارات ميدانية لعدد من المواقع الأثرية والنقوش الصخرية، أبرزها الموقع الأثري “بزكار” الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 7 آلاف سنة قبل الميلاد، إضافة إلى المعالم الجنائزية والقرى البربرية بالمنطقة.
كما تم رسم مسار سياحي استكشافي تحت تسمية “سفاري تاريخي” يربط بين (المجبارة ـ عين الناقة ـ زكار ـ عين الإبل)، في مبادرة تعد الأولى من نوعها بالولاية، التي تزخر بـ45 موقعا أثريا يضم أكثر من 1126 نقشا صخريا يصور أشكالا حيوانية ومشاهد مختلفة. ومن بين هذه المواقع، دير الدقاوين بزكار، ضاية أم الشويشة، خنق الهلال، حجرة سيدي بوبكر، فضلا عن مواقع المعالم الجنائزية الأخرى.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19753

العدد 19753

الإثنين 21 أفريل 2025
العدد 19752

العدد 19752

السبت 19 أفريل 2025
العدد 19751

العدد 19751

الجمعة 18 أفريل 2025
العدد 19750

العدد 19750

الأربعاء 16 أفريل 2025