تحقيق الرّهـان الاقتصـادي بـأدوات معرفيـة راقيــة
ابتكـار وتفاعـل مستمــر مـع البيئـة الاقتصاديـة والاجتماعية
دور حاسـم فــي توفير مسـارات التّوظيـف والمشاريع الرّياديــة
قدّم نائب مدير جامعة معسكر، البروفيسور كربوش محمد، قراءة تقنية لمسألة انتقال الجامعة الجزائرية إلى جامعة الجيل الرابع، وتأثير ذلك على الاقتصاد الوطني، مؤكّدا أنّ عالم اليوم الذي يسير بالسرعة القصوى، لا يؤمن سوى بالقدرات العلمية والتكنولوجية، وأنّ التكيف مع تحولات الحقول العلمية حتمية لا مفر لها.
يعرّف البروفيسور كربوش في حديثه مع “الشعب”، جامعة الجيل الرابع بأنّها تركز على الابتكار والبحث العلمي التطبيقي وريادة الأعمال، وترمي إلى تحقيق التميز الأكاديمي من خلال تطوير بيئة تعليمية وبحثية متقدمة، وتعزيز الشّراكات مع القطاعات الصناعية والمجتمع، إضافة إلى استخدام التكنولوجيات الحديثة في التعليم والتّعلّم، مؤكّدا - في السياق - أنه لا يوجد أدنى شك في قدرة الجامعة الجزائرية على اقتحام هذا العالم من أوسع الأبواب، مع توفر الإرادة السياسة والإخلاص، وقابلية العقل الجزائري الكبيرة لإنارة العتمات في أكثر من موضع من أجل تحقيق مسعى الانتقال إلى جامعة الجيل الرابع.
عهــد الجيـل الرّابــع
أوضح كربوش أنّ التّغيّرات المتسارعة التي يشهدها حقل العلوم خاصة في الشق الأكاديمي، تفرض على جميع المنابر المعرفية التكيف مع المرحلة، بما في ذلك الجامعة التي أضحت ملزمة بتبني نماذج تعليمية جديدة تتماشى ومتطلّبات الاقتصاد الرقمي، فعهد الجيل الرابع هو تصحيح منهجي وإضافة مشهودة للأساليب السّابقة، وهناك من يراه ثورة معرفية أسّست لوضع جديد، لافتا أنّ انتقال الجامعة الجزائرية إلى الجيل الرابع، يدل على محطة جديدة ضمن مسيرة تطورية للمؤسّسات التعليمية، يتم فيها دمج التكنولوجيا الحديثة مع ميكانيزمات معرفية سائدة بشكل مرن وسلس قصد بلوغ تجربة تعليمية أكثر كفاءة ومهارة، تركّز على الابتكار والتفاعل المستمر بين المجتمع الأكاديمي والبيئتين الاقتصادية و الاجتماعية.
إضافــة مرموقة للمنهـج
يرى البروفيسور كربوش أنّه ليس اعتباطا أن يكون الابتكار أهم أركان الجيل المعرفي الرابع، فلذلك تعتبره الجامعة جوهرا و«براديغما” لهذه المقاربة، وتوليه أهمية خاصة تنظيرا وتجسيدا، بلا نكران لأثر ذلك على دفع عجلة النمو الاقتصادي، من خلال خلق فرص العمل وزيادة الإنتاجية كمّا ونوعا، دون إغفال قدرة الابتكار بجامعة الجيل الرابع، في خلق مهارات معنوية موازية، وتطوير الملكات الفكرية، زيادة على نجاعة العمليات وجودة الخدمات، وهي كلها مخرجات بإمكانها تحسين الكفاءة، وتخفيض حجم التكاليف وزيادة القدرة التنافسية.
وقال كربوش إنّ “نماذج الابتكار تعدّدت وأخذت صورا عدة، منها النموذج الحلزوني الثلاثي الذي كان محور الملتقى الوطني الأول بجامعة معسكر بعنوان الجامعة والابتكار سنة 2023، وحظي بدراسات محكمة في إيجاد التفاعل والتعاون بين ثلاث جهات فاعلة رئيسية في عملية الابتكار التي تتمثل في الأوساط الأكاديمية، الصناعية والحكومية، لافتا إلى أن القطاع الأكاديمي يخلق معرفة جديدة من خلال البحث والتعليم، بينما يضمن القطاع الصناعي الجانب التطبيقي لهذه المعرفة التي تسوق من خلال الابتكار، إلى جانب القطاع الحكومي المسؤول عن توفير الإطار التشريعي والقانوني وموارد البحث والابتكار”.
الارتقاء بمرفق الجامعة..إرادة المخلصين
أوضح البروفيسور محمد كربوش، أنّ الجزائر كغيرها من بلدان العالم، تنشد الانتقال إلى جامعة الجيل الرابع، وهو تحول شامل وإبستمولوجي نحو نموذج تعليم عال يتخطى الأدوار التقليدية للمؤسسات الأكاديمية، على شاكلة وظيفتي التدريس والبحث العلمي، ليتوسّع ويستهدف أدوارا مركزية في تعزيز الابتكار والمقاولاتية، وتقديم حلول مباشرة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية، فمن خصوصيات هذا الجيل اعتماده الكلي على التكنولوجيا الرقمية، واستفادته من الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، ناهيك عن اقترانه الملازم لملكة الابتكار التكنولوجي، والتعليم التفاعلي عن بعد الذي يفرز في نهاية المطاف تعزيز التعاون بين الجامعات وباقي القطاعات الاقتصادية.
ونوّه البروفيسور كربوش بالتوجه الجديد للجزائر عبر إرادة سياسية صريحة للارتقاء بمرفق الجامعة حتى تصل إلى مستويات تنافسية، وتضمن حضورها في عالم الكبار بدعم مطلق من السيد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، منذ توليه مقاليد الحكم، الأمر الذي عملت عليه وزارة التعليم العالي لتجسّد أولى خطوات هذا المسعى، حيث كانت الانطلاقة بتعزيز القدرات الرقمية لجامعة الجزائرية وكل الهياكل المرفقة، ما أفرز زخما معرفيا حقيقيا، وحقّق نقلة نوعية إلى هذا النمط من الجامعات، الذي اتضح أكثر مع النجاح في بلورة السمة الأساسية لهذا النموذج من خلال اعتماد منصة PROGRES لتسيير الحياة الطلابية والجامعية، وحاضنات الأعمال، ومراكز دعم التكنولوجيا والابتكار داخل الجامعات، إضافة إلى مراكز تطوير المقاولاتية ومكاتب الربط بين الجامعة والمؤسسات الاقتصادية.
وقال كربوش إنّ تجربة الجامعة الجزائرية في الانتقال إلى الجيل الرابع، ما زالت فتية وتنتظرها تحديات في الأفق المنظور، غير أن النجاح في المتناول مع تكثيف المجهود الحكومي وإعادة النظر في تمويل البحث والتطوير، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص من خلال وضع مزايا تحفيزية، فضلا عن خلق بيئة قانونية ملائمة هدفها الابتكار المفتوح، مع العمل على إنشاء وسائط الدفع الإلكتروني، وإصدار النصوص التطبيقية من أجل التمويل التشاركي، بالإضافة إلى مراجعة الإطار التشريعي للتجارة الإلكترونية، وجعلها أكثر مرونة وملاءمة مع الـمؤسسات الناشئة.
وعبّر محدثنا عن أمله في أن تولي الحكومة الجزائرية عناية خاصة للبيئة الخارجية، باعتماد سياسات تشجع التعاون الدولي في مجال التعليم العالي، على غرار تأسيس شراكات فعلية مع الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية، ما من شأنه أن يدرّ فوائد جمّة على النظام التعليمي الوطني، والنهل من تجارب عالمية رائدة لها صيت في الحقل البيداغوجي والتكنولوجي، كما يجب أن لا نغفل ركيزة التّحوّل الرقمي - يقول كربوش - لأنّ نجاح جامعات الجيل الرابع يعتمد بشكل أساسي على دمج الأدوات والمنصات الرقمية في العملية التعليمية، بحيث تمكّن المنصات التعليمية الإلكترونية والفصول الدراسية الافتراضية والذكاء الاصطناعي في التعليم المخصص للطلبة من الوصول إلى الموارد والمشاركة في دراستهم بطرق مرنة وفعالة، فضلا عن تقوية الروابط مع الصّناعة، وهي الميزة التي تتمتع بها جامعات الجيل الرابع بعلاقاتها الوثيقة مع القطاع الصناعي، إذ تعمل بالتعاون مع الشركات لتصميم البرامج التعليمية التي تتماشى مع احتياجات سوق العمل، ويعزّز هذا التعاون البحث التطبيقي، ويضمن أن تكون مخرجات الجامعات جزءاً فعالاً في تعزيز النمو الاقتصادي.
ودعا البروفيسور كربوش إلى التركيز على المقاولاتية كركيزة أخرى لجامعة الجيل الرابع، فهي تعمل كمحفّزات للمؤسّسات سواء الصغيرة أو الناشئة، وتقدّم للطلاب والباحثين الأدوات والتدريب والفرص لتطوير مشاريعهم الخاصة، كما تساهم مراكز الابتكار بالجامعات في دعم الأعمال الجديدة التي يمكن أن تحفّز الاقتصاد وتوفّر فرص العمل، بالإضافة إلى الاتصال العالمي، حيث تتجاوز جامعات الجيل الرابع الحدود الوطنية لتصبح جزءا من نظام تعليمي عالمي، إذ يعد التعاون والشراكات الدولية - حسب المتحدث - ضروريين لتعزيز تبادل المعرفة، ودفع الأبحاث المتقدمة، وضمان بقاء الجامعات الجزائرية قادرة على المنافسة على الساحة الدولية.
إنجـاز غــير مسبـوق
تحدّث المختص الاقتصادي عن أهمية التعلم المخصّص والشخصي، من خلال استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، وقال إنه يمكن للجامعات تقديم تجارب تعليمية مخصّصة لكل طالب حسب احتياجاته وقدراته، ممّا يساعد في تحسين الأداء الأكاديمي وتقديم الدعم الفردي اللازم للطلبة، فضلا عن دعم نموذج التعليم مدى الحياة، الذي يهدف إلى تقديم فرص التعلم المستمر والمرن للأفراد في مختلف مراحل حياتهم المهنية، ما يعزّز من قدرة الجامعات على تلبية احتياجات المجتمع الاقتصادية، وتقديم برامج تعليمية متنوعة تتماشى مع التغيرات السريعة في سوق العمل.
واعتبر البروفيسور كربوش أنّ وضع قاطرة الجامعة في سكة الجيل الرابع هو تحدّ تاريخي، وإنجاز علمي وأكاديمي سيقدّم منافع لا تحصى لصالح الطالب والجامعة على حدّ سواء من خلال تحسين جودة التعليم، حيث يعزز الانتقال إلى الجيل الرابع من جودة التعليم المقدم، من خلال اعتماد الجامعات على أدوات تقييم حديثة، تسهم في تحسين مخرجات التعليم وضمان جودة الأداء الأكاديمي، كما تتيح الأنظمة الرقمية تحليل التفاعلات الطلابية، وتقديم الدعم المستهدف لتحسين أداء الطلاب، فضلا عن تعزيز فرص التوظيف، إذ يساهم هذا النموذج في قدرة الخريجين على الاندماج في سوق العمل، حيث يتم تدريبهم على المهارات الرقمية الحديثة والابتكارية المطلوبة، كما ستساعد العلاقات بين الجامعات والصناعة في إعداد الطلاب بشكل أفضل للتحديات المهنية التي سيواجهونها، وتساهم برامج التدريب والمشاريع المشتركة في زيادة فرص توظيف الأعداد المتخرّجة.
ويعزّز نموذج جامعة الجيل الرابع مجال البحث والابتكار من خلال الدعم التكنولوجي والارتباط الوثيق بالصناعة، حيث يصبح البحث العلمي حسب المتحدث، أكثر توجّها نحو التطبيق العملي، ممّا يسهم في إيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والصناعية الحقيقية التي تواجه المؤسسات الاقتصادية، كما يتيح الجيل الرابع من الجامعات للباحثين فرصا أوسع للتعاون مع الشركات والمؤسسات لتحقيق الابتكارات التي تعود بالنفع على المجتمع ككل، ويقلّص الفجوة التعليمية بفضل التعلم الإلكتروني والمنصات الرقمية، ما يمكّن الطلاب في المناطق النائية من الوصول إلى التعليم الجامعي بجودة عالية، وهو ما يساعد في تقليص الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، ويعزّز من مبدأ المساواة في التعليم.
تنويـع الاقتصاد ومقاربـة البدائــل
بالرجوع إلى تأثير جامعة الجيل الرابع على الاقتصاد الوطني، قال البروفيسور كربوش إنّه من الحتمي أن يكون لهذا العهد تأثير إيجابي عميق على الاقتصاد الوطني، حيث سيدفع النمو عبر عدة قطاعات وسيسهم في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي الوطني، فمن خلال تبني نموذج الجامعات من الجيل الرابع، ستلعب الجامعات الجزائرية دوراً محورياً في تحويل الأبحاث إلى تطبيقات عملية، وتعزيز نقل التكنولوجيا، والمساهمة في نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة، وسيدعم هذا التحول الجهود الحكومية للحد من البطالة عبر خلق قوى عاملة ماهرة قادرة على دفع عجلة التنويع الاقتصادي.
ويبرز التأثير المباشر لجامعة الجيل الرابع على الاقتصاد - يضيف المتحدث - من خلال دمج الأبحاث العلمية بالقطاعات التجارية، وهو وضع يتيح للجامعات أن تحتضن تقنيات جديدة، وتنتج براءات اختراع، وتدعم الشركات الناشئة والصغيرة من أجل خلق صناعات جديدة خارج قطاع النفط والغاز، كبدائل محلية على شاكلة الطاقة المتجددة، تكنولوجيا الزراعة، والخدمات الرقمية، وهي قيم اقتصادية تضمن إيرادات جديدة للدولة.
تعزيز الابتكار وريادة الأعمال..المقاربة الخلاّقة
وصمّمت جامعات الجيل الرابع - حسب البروفيسور كربوش - لتكون مراكز للابتكار والمقاولاتية، فهي فضاء ملائم لتسويق الأبحاث الأكاديمية، وتروّج للشراكات بين الجامعات والفضاءات الصناعية. وبلغة الاقتصاد - يواصل محدّثنا - هي تشجّع الشركات المعتمدة على الابتكار بغية خلق وظائف جديدة، وزيادة الإنتاجية، إضافة إلى تعزيز القدرة التنافسية للمؤسسات الجزائرية حتى على مستوى البيئة العالمية، كما تمكّن من التصدي للبطالة في شكل مقاربة حمائية، في ظل وجود نسبة كبيرة من الشباب ومستويات مرتفعة من البطالة، في وقت يواجه الاقتصاد الجزائري ضغوطًا كبيرة لتوفير فرص عمل جديدة.
وأبرز المتحدّث أنّ الانتقال إلى جامعة الجيل الرابع، يسمح بأداء دور حاسم في توفير مسارات التوظيف من خلال العديد من القيم المادية والمعنوية، والمشاريع الريادية والتدريبات العملية، والبرامج التدريبية التي تتوافق واحتياجات سوق العمل الحديثة، مع التركيز أساسا على الأدبيات الشهيرة لهذا الجيل، على غرار المهارات الرقمية والبحث العلمي الأفقي والعمودي والابتكار، عندئذ فقط يمكننا القول إنّ النسق الأكاديمي والعلمي قد وفّى بالغرض، وتمكّن من الاستجابة لمطالب الطلبة المتخرجين خاصة من شعب التكنولوجيا، الرعاية الصحية، والهندسة، على حد قوله.
وفي مقاربة التجاوز الإقليمي والجغرافي، اعتبر البروفيسور كربوش جامعات الجيل الرابع عالمية في رؤيتها؛ لأنّها تركّز على التعاون الدولي في مجال البحث والابتكار، وهو أمر بالغ الأهمية لدمج الجزائر في اقتصاد المعرفة الدولي، عبر النجاح في تشكيل شراكات مع المؤسسات الدولية، وهي قفزة في المصفوفة الأكاديمية تستقطب عديد الاستثمارات الأجنبية، وتعمل على تحسين جودة الأبحاث، وتعزّز حضور خصوصية البلاد في الأوساط الأكاديمية والتجارية العالمية.
ويرى نائب مدير جامعة معسكر، المكلّف بالاستشراف محمد كربوش، أنّ شعار عالم اليوم هو “السّرعة القصوى”، عالم لا يؤمن بغير القدرات العلمية والتكنولوجية، والحلقة الضّعيفة غير معترف بها في المنتظم الأكاديمي العالمي، مؤكّدا أنّه لا مفرّ من التكيف مع تحولات حقل العلوم الذي أطلق قطاره هذه المرة من محطة جامعة الجيل الرابع، التي تركز على الابتكار والبحث العلمي التطبيقي وريادة الأعمال، وترمي إلى تحقيق التميز الأكاديمي من خلال تطوير بيئة تعليمية وبحثية متقدمة، وتعزيز الشراكات مع الصناعة والمجتمع، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في التعليم والتعلم، موضّحا أنّه لا شك في قدرة الجامعة الجزائرية من اقتحام هذا العالم من واسع الأبواب، مثلما لا شك في النّوايا الطيبة للإرادة السياسية، وفي خصوبة العقل الجزائري الذي أنار عديد العتمات في أكثر من موضع.