ليس من السهل التحدث إليهن وسؤالهن عن حالهن في مجتمع مغيب تفكيره في جدوى عضوية امرأة فقدت حتى أهليتها كـ «أنثى»، بالرغم مما أثبتته التجارب من وجود نساء يكافحن في الأضواء وخلفها من أجل تربية جيل كامل على قواعد المجتمع.
كانت إحدى البصمات الراسخة في مسيرتي المهنية لأنها امرأة لخصت معاناتها حقيقة المكانة التي تحتلها المرأة في المجتمع، سليمة.م واحدة ممن التقيتهن في إحدى التحقيقات عن دار العجزة بدالي إبراهيم، جاءت من أعالي جبال زكار بسبب رفض عائلتها التكفل بها لأنها من ذوات الاحتياجات الخاصة، فبعد وفاة والديها وهي لم تتجاوز 11 سنة تكفلت بها أختها لما يقارب الأربع سنوات، لكن وبسبب الفقر والعوز رفض زوج شقيقتها بقاءها في البيت، لذلك اضطرت إلى العودة إلى منزل والديها أين يقطن أخوها الوحيد مع زوجته وأبنائه.
كانت عودتها إلى بيت الطفولة بمثابة المرحلة الانتقالية، لأنها لم تنتظر كثيرا حتى عبرت زوجة أخيها عن امتعاضها بسبب تواجدها وسطهم، طبعا، فأقنعها بالسفر إلى العاصمة من أجل التداوي، لكنها وجدت نفسها في دار العجزة بعد تخليه عنها لأنها، وكما قالت زوجته، لا تستطيع حتى مساعدتها في الأعمال المنزلية، أي أنها غير قابلة «للاستعباد»!. لن يُدهش ما فعله هذا الأخ كثيرا القارئ، لأن الأمهات اللواتي وضع الله تعالى تحت إقدامهن الجنة، داستها الأقدام لتسكن تلك الجدران الباردة بدالي إبراهيم وباقي دور العجزة في مختلف مناطق الوطن.
هي هناك منذ بداية الألفية الثالثة التي كنا نظنها نقلة نوعية لحياة الإنسان وتطوره، لكنها أثبتت، مرة أخرى، أن القوانين غير كافية لحماية المرأة من النظرة الدونية، بل غير كافية لتغيير قناعة الذكور بأنهم رجال والأنثى امرأة سواعدها تصنع المعجزات.
بقيت سليمة هناك على الرغم من الإعاقة وحرمانها من دفء العائلة تنتظر عودة أخيها إليها، لكن هيهات أن يتحقق المستحيل في مجتمع لا يرى فيها سوى امرأة فشلت في إثبات قدرتها الجسدية والعقلية للبقاء تحت طائلة «الاستعباد».
«لصوصية» إرادة
تلجأ المرأة من ذوات الاحتياجات الخاصة في كثير من الأحيان إلى الحرف من أجل تحقيق ذاتها ووجودها كإنسان منتج مستقل استطاع تجاوز دونية المجتمع بما توفره لها الدولة من تكوين وتأهيل نفسي وتقني بغية تمكينها اقتصاديا.
حقيقة أن الكثير من المشاريع أطلقت على يد نساء ظن المجتمع أنهن غير قادرات على تحقيق حلمهن في الاستقلال عنه وعن تبعيته المظلمة، لكنهن بالرغم من نجاحهن عجزن عن زحزحة قناعة راسخة في كونهن مجرد «صفر» بعد الفاصلة.
بالرغم من أن الدولة سخرت القانون وكل هيئاتها من أجل إخراج المرأة، معاقة كانت أم عادية، من «دهاليز» ذكورية خانقة، إلا أنها وجدت أمامها مقاومة كبيرة عنوانها «المرا في الكوزينة».
جميلة، معاقة حركيا، استطاعت تأسيس شركة صغيرة لصناعة منتجات تزيينية تقليدية وجدت نفسها مضطرة إلى الزواج من ابن عمها، لأنه من سـ»يسترها»، بحسب والدها وإخوتها، لكن الحقيقة أن زوجها وجد أمامه امرأة تستطيع التكفل بحاجياته لدرجة طلبه منها التخلي عن ملكية شركتها له، لأنه رجل ولا يقبل أن يكون تابعا لها في مجتمع بدأ في لقاءات رجالية على طرقات وأرصفة الحي عملية تجريده من رجولته، وبالفعل بعد شجارات متكررة وجدت جميلة نفسها أمام خيار كتابة كل أملاكها باسم زوجها أو هدم بيت الزوجية.
رضخت كما رضخت أول مرة لعائلتها التي باعتها في «صفقة» ميراث وقبلت أن تتحول إلى مجرد معاقة سلبها زوجها كل كيانها ووجودها في حياة أرادت أن تكون فيها امرأة قوية، لكنها وجدت نفسها أمام امرأة خذلها الأب والأخ والزوج الذي هجرها وسافر إلى الخارج من أجل بناء حياة جديدة بعد بيعه لكل الأملاك التي منحته إياها جميلة.
الأدهى والأمر
الأدهى والأمر أن المرأة من ذوات الاحتياجات الخاصة استغلت من بعض الجمعيات بمحاولة استعمالها كوسيلة لربح المال، وعوض الجلوس لساعات طويلة على الأرصفة لاستجداء عطف المارة من أجل علاج «المعاقة»، أعطي لعملية التسول صفة رسمية بأسماء جمعيات تحاول تحقيق ربح مادي باستنزاف دعم الدولة لفئة ذوي الاحتياجات الخاصة وجعلها في خدمة مصالحهم الخاصة.
بعض الجمعيات تحاول استحداث طريقة جديدة لاستغلال هذه الفئة بعيدا عن الإنسانية أو الرحمة، في صورة تعكس بكل مرارة النظرة الدونية لهذه الفئة؛ فئة مصيبتها الأول كونها «أنثى». أما الثانية فهي من ذوات الاحتياجات الخاصة.
في بعض الأحيان أتساءل عن سبب تمسك المجتمع بقناعته، رغم معارضتها لتعاليم الدين الإسلامي والأخلاقي والإنساني، فحتى المجتمع الغربي حول المرأة إلى مجرد سلعة تباع وتشترى. لكن الأغرب هو التحاق بعض القنوات التلفزيونية بالركب، من خلال تبنيها هذا المبدأ، صارت تتربح بمأساة تلك النسوة بحصص تلفزيونية تحاول جاهدة رفع نسبة المشاهدة بجعل دموع «الممحونات» وسيلة ناجعة لتحقيق «السكوب» ورفع عدد المشاهدين.
«زوجة أبي»
وضعت أرقاما خضراء للتبليغ عن حالات العنف تجاه هذه الفئة على اختلاف مكان تواجدها، إلا أن الأرقام لا تعكس حقيقة المعاناة، فـ»أمينة» التي لا يتجاوز سنها 35 سنة منذ عقدين من الزمن موجودة في العاصمة، بعد أن جاء بها والدها من إحدى ولايات الهضاب العليا إلى مستشفى مصطفى باشا للتداوي من إعاقتها، بقيت هناك لدرجة كل عمال المصلحة يعتبرونها واحدة من العائلة، ساعدوها لتدرس عن بعد حتى تحصلت على شهادة البكالوريا والتحقت بالجامعة رغم الكرسي المتحرك الذي يكبلها.
الأمرّ من كل ذلك، أن زوجة أبيها حرمتها من حقها في ميراث والدها، لأنها غير قادرة على التصرف، لدرجة أنها طردتها من المنزل فأصبحت مضطرة إلى البقاء في العاصمة، لأن أمها متزوجة برجل آخر يرفض بقاءها معه في منزل واحد، فما كان من عمال المصلحة التي قضت فيها أكثر من عشر سنوات، إلا مساعدتها على كراء شقة مع بعض العاملات معهن لتفادي خروجها إلى الشارع أو ذهابها إلى دار العجزة.
المتحدث إلى أمينة يجدها ساخطة على مجتمع حرمها حقها، لأنها مجرد «لا شيء» بالنسبة له، مجرد كائن مشوه لن يكون بمقدوره أداء وظائفه الجسدية ولا الاجتماعية، لذلك هي اليوم تبحث عن أمل يعيد الحياة إلى قلبها، خاصة بعد تخلي عائلتها عنها بعد وفاة والدها، ولولا هؤلاء ممن وقفوا إلى جانبها في محنتها لما استطاعت اليوم البحث عن عمل أو أي نشاط من أجل تحقيق ذاتها والاستقلال ماديا بعيدا عن المساعدات التي يقدمها لها أفراد من هذا المجتمع استطاعوا الحفاظ على جوهرهم الإنساني.
التمييز أهم المشاكل
في إحدى الدراسات الميدانية في 2020، تبين أن أهم المشاكل التي تواجهها ذوات الاحتياجات الخاصة في الجزائر، من وجهة نظرهن، هي تعليمية بنسبة 67٪ وإدماج مهني بـ62٪ وعمل 92,5٪ وأخيرا التمييز بـ93٪، أرقام تعكس في جوهرها النظرة القاسية التي تواجهها المرأة المعاقة في المجتمع. فالتمييز غالبا ما يكون جدارا وضعت لبناته بإسمنت مسلح يرفض الخضوع لرياح التغيير التي أثبتت منذ المقاومة الشعبية بل وقبلها قوة المرأة وجدارتها.
الحقيقة المرة التي تعانيها ذوات الاحتياجات الخاصة وقبلها النساء في التموضع داخل مجتمع يعتبر شغل المرأة منصب عمل سرقة لحظوظ الرجل في إيجاد منصب عمل، لذلك سأتكلم اليوم عن نبيلة التي انتهى مشوارها الدراسي بالثانوية بسبب إعاقتها الحركية وعدم وجود تهيئة عمرانية تساعدها على الالتحاق بالقسم، ما اضطرها إلى مواصلة دراستها عن طريق المراسلة.
نعم، التهيئة العمرانية للبنايات والأماكن وعدم تكييفها سبب مهم في تقليص فرص الدراسة والعمل والتنقل لدى هذه الفئة. لن أخوض في التفاصيل، لأن الأمر واضح وجلي، لكن الأهم أن الدولة تفرض وبصفة عامة معايير محددة لتسهيل وصول المعاقين إلى الأماكن العمومية تخص المداخل، مثل ممر الراجلين والأرصفة، مواقف السيارات، المنحدرات والسلالم، الأبواب، الأروقة، التهيئة الخاصة للأماكن الداخلية كالغرف والحمام ودورات المياه وغرف التبديل في المحلات، المصاعد، علب الرسائل والهاتف العمومي واللوحات، والشبابيك والموزعات الآلية، لكنها وكما هي ترسانة القوانين تبقى حبرا على ورق، خاصة ما تعلق بالبنايات الخاصة.
بالرغــم مـن وجـود ترسانة قوانين تحمــي حقـوقهن
ذوات الاحتياجـات الخاصـة تلفظهـن العائلــة وتحتضنهن مراكـز الرعايـة
فتيحة كلواز
شوهد:249 مرة