يطرح النشاط المحتشم للطبقة السياسية على الساحة، الكثير من التساؤلات حول أثرها وفعاليتها في المشهد السياسي، ومدى ارتباط نشاط عديد الأحزاب السياسية بالعملية الانتخابية، وأي رقم تحتله في معادلة الحياة السياسية العامة، وحضورها في الميدان والمواقع واقتراحاتها للتخفيف من حدة المشاكل الاجتماعية والصّعوبات الاقتصادية، طرح تناولته «الشعب» مع مجموعة من الأكاديميّين الذين أجمعوا على ضرورة تفعيل الطبقة السياسية لدورها، وخروج بعض الأحزاب من عباءة المناسبات الانتخابية فقط.
قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة تمنراست أحمد إيدابير، «إن من بين الأمور التي تزيد فجوة الثقة بين المواطن والسياسي، غياب دور الأحزاب السياسية، خاصة تلك التي تنشط فقط في أوقات اقتراب الانتخابات الرئاسية أو التشريعية أو المحلية، لتغيب بعدها فترة طويلة». فليس من المفترض حسبه بروز الأحزاب في عقب الانتخابات فقط، وإنما من واجبها أن تكون حاضرة بتواصل دائم مع المواطن بدون مناسبات، بمعنى ألا يكون نشاط الأحزاب نشاطا مناسباتيا فقط.
واعتبر المتحدث أنّ القوى السياسية يجب أن يكون شغلها الشاغل البحث عن الحلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، بما يتناسب ليس فقط مع تطلعات الشعب، وإنما أيضا بما يتناسب مع مقدرات الدولة الوطنية، ومن البديهي كما ذكر أن تكون هناك حلول سياسية لدى النخبة والأحزاب السياسية للمشاكل الاجتماعية وجميع الضائقات الاقتصادية والمعيشية، ذلك إذا توفرت بيئة تعاونية حقيقية لرسم خارطة طريق، تساهم فيها جميع التيارات المختلفة.
وأشار الدكتور إيدابير إلى أنّ غياب نشاط الطبقة السياسية من المشهد، سواء في الميدان أو على المواقع ليس بالمنظور المطلق، لأنّ هناك نشاطات ميدانية وعلى مستوى منصّات التواصل الاجتماعي للعديد من النخب السياسية باختلاف تياراتها، إلا أنّه يمكننا أن نفرّق بين نشاط فعّال ونشاط بدون تأثير.
فبالنسبة للنشاط الفعال، والذي يكون على مدار السنة، من خلال لقاءات ونقاشات ومؤتمرات صحفية وأنشطة هادفة وجادة تستهدف المواطن بدرجة أولى، والتأثير على مواقفه إيجابا انطلاقا من ثقافة المجتمع السياسية السائدة، وصولا إلى احداث بيئة فعالة، بهدف دفع نشاط الطبقة والنخب السياسية نحو ممارسة ما يعرف في أدبيات علم الاجتماع السياسي بالتنشئة السياسية والاجتماعية، لكن هذا الأمر يبدو غائبا تماما، حسبه فهناك معضلة تطبيق لهذا المفهوم خاصة في البلدان العربية وأغلب بلدان العالم الثالث.
وأدّى هذا الأمر إلى استدامة النّشاط غير الفعّال للطبقة السياسية، وبالتالي أصبحت نشاطاتها بدون تأثير، ويعود هذا بالأساس إلى تدنّي مستوى الثقافة العامة والثقافة السياسية في المجتمع، حتى أصبح المواطن يعاني في هذه الحالة ممّا يعرف بهامشية الموقع والدور.
طبقة سياسية مدركة للتّحدّيات
من جانبه ذكر الدكتور في العلوم السياسية محمد السعيد بن غنيمة «بأنّنا نشهد للأسف غيابا شبه كلي للعديد من الأحزاب في الفترة الأخيرة، بالرغم من وجود العديد من القضايا التي من المفروض أن تدلي بدلوها فيها، خاصة في الشق المتعلق بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية».
وأردف في نفس السياق «وفي نظري يعود هذا الغياب للعديد من الأسباب، أهمها أن الكثير من الأحزاب تفتقد لبرامج واضحة حول مختلف التحديات التي تشهدها الجزائر، وتكتفي في الكثير من الأحيان بمتابعة ما يصدر على السلطة ولا تقدّم بدائل قوية، وهو ما يضعف من تواجدها ويجعلها أحزابا موسمية، تكتفي بالمشاركة في المحطات الانتخابية فقط، وهذا لا ينفى تواجد بعض الأحزاب الجادة التي تسعى لتكون قوة اقتراح وتقديم بدائل قوية في مختلف المجالات».
وقال محدثنا إنّ الانتخابات التشريعية والمحلية، ما هي إلا محطات تمر بها الأحزاب، لكن الحزب السياسي له العديد من الأدوار والوظائف الأخرى، مثل المساهمة في التنشئة السياسية وتكوين النخب السياسية، وإدارة الصراع السياسي والمساهمة في التنمية عن طريق المجالس المنتخبة، لذلك من الضروري أن يتواصل نشاط الحزب طيلة السنة، وليس في المحطات الانتخابية فقط.
وبالعودة إلى الطبقة السياسية أوضح بن غنيمة، أنه «ينبغي التفريق بين مفهوم الطبقة السياسية الذي يشير في كثير من الأحيان إلى مختلف النشطاء والفاعلين في صناعة القرار السياسي، ويرتبط في العادة بالنخب الحاكمة أيضا وبين الطبقة أو النخبة الحزبية التي نقصد بها الأحزاب السياسية الفاعلة».
وعند الحديث عن الطبقة السياسية في الجزائر حسب المتحدث، «نرى أنّه من الضروري أن تتجدّد، لأننا في حاجة ماسة لطبقة سياسية جديدة تكون مدركة لحجم التحديات التي تشهدها الجزائر، وتستطيع تقديم حلول لمختلف المشاكل التي يعاني منها المجتمع الجزائري، ولن يتم ذلك إلا بأحزاب سياسية قوية تساهم في تكوين نخب قادرة على تقديم الإضافة النوعية، بالإضافة إلى ضرورة تواجد مجتمع مدني قوي يساهم في الرفع من الوعي».
ومع ذلك، فإنّ المتتبّع لنشاط الأحزاب الفاعلة وهي قليلة كما يقول الأستاذ بن غنيمة، يلاحظ أن هناك بعض الأحزاب التي تقترح بعض الحلول، بهدف التخفيف من حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ولا يتسع المجال هنا لذكر كل المبادرات، ولكن يبقى من الضروري أن تضغط هذه الأحزاب بمختلف الوسائل الديمقراطية، من أجل تجسيد برامجها وتقديم بدائل قوية، تساهم في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي في الجزائر.
العمل السياسي والانتخابات
اعتبر الدكتور إلياس حود ميسة أستاذ العلوم السياسية بجامعة ورقلة، أنّ الوضع الصحي سبّب أساسا في الركود إن صح التعبير، وهو وضع تعيشه الجزائر والعالم ككل، على إثر فيروس كوفيد 19 وموجاته المتجدّدة، والذي أخلط الأوراق والحسابات أمام الطبقة السياسية.
واضاف «إن كان تراجع نشاط الطبقة السياسية أمرا غير صائب في هذه المرحلة التي نعيشها، لكنه واقع للأسف في الجزائر، حيث كان يجب على الأحزاب السياسية أن تضع برنامجا لإقناع الناخبين، لكن بعد الانتخابات بعض هذه الأحزاب تبقى لديها أعمالها ونشاطاتها، والكثير منها تختفي نهائيا من الساحة، وهذا شيء خاطئ، لأن العملية والحركية السياسية، يجب أن تبقى مستمرة من خلال متابعة عملية تكوين المنتخبين أو غير ذلك حتى لا يبقى العمل السياسي رهن للعملية الانتخابية أو مرتبطا بهذه المواعيد فقط».
أمّا الدكتور في العلوم السياسية رضوان مجادي، فيقول بأنّ الحزب السياسي، كيفما كانت طبيعته وخلفيته وأهدافه، له وظائف عديدة لا تقتصر فقط على تحقيق المكاسب البراغماتية عبر الوصول إلى السلطة السياسية، وإنه لمن الجلي أن ينشط باستمرار غير منقطع النظير، وألا يكون نشاطه مناسباتيا.
«كما أنّ رمزية الأحزاب السياسية، تتقوّى أكثر حينما تُثَبّتُ استمراريتها في مواصلة نشاطها السياسي خارج المواعيد الانتخابية، غير أنها تعيش اليوم حالة من التململ التي أفقدتها خاصيتها النبيلة، فقط لأنّها تركّز على هدف يرمي للوصول إلى دوائر صنع القرارات السياسية»، حسبما ذكره.
وأشار الدكتور مجادي هنا، إلى أنّ ما يُنتظر من الطّبقة السياسية اليوم هو أن تغير فلسفتها وعقيدتها في التعاطي والتعامل مع مكونات وعناصر البيئة المحيطة بها، وأن تتجاوز حالتها المرضية التي تكاد أن تسبب لها عقما فكريا، قد لا يقدّم مشاريع سياسية وتنموية تتعايش وظروف الأزمات، ومتطلبات التغيير والإصلاح.
وأفاد أنّ المطلوب هو التركيز على دور النخب بمختلف أصنافها ومستوياتها في التجديد الفكري، وضرورة إدماج فئاتها وشرائحها، من خلال إعادة هيكلة أبنية ووظائف الأحزاب السياسية كخطوة لتوفير قاعدة صلبة، تساعد على بناء مشروع الدولة والمجتمع، ولابد أن تتجاوز قيمها حالات الصدام والانغلاق، والإقصاء والولاء السياسي الذي يعد أحد أركان الأزمات السّائدة في بلدنا.